لشدة ما تحسّر أنس بن
النضر حين فاته مشاركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمسلمين في معركة بدر الكبرى، وفاته شرف
الانتساب إليه، لقد كان يظنُّ أن الأمر لا يتعدى مصادرة عير قريش العائدة من الشام
بتجارة رابحة، فقد استلب كفار مكّة كلَّ أموال المسلمين المهاجرين إلى المدينة،
ودورهم، ومنعوا من حاول الهجرة بأمواله إلا أن يخرج دونها.
وكثير من المسلمين ظنوا
هذا، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعلم أن هناك قتالاً لاستنفر المسلمين جميعاً، ولكن شاء الله تعالى أن تنجو
القافلة وأن يهُبَّ المشركون في قريش لنجدتها، ويُعِدوا العدة لقتال المسلمين
وتأديبهم فالتقى الطرفان، المشركون بقضِّهم وقضيضهم وعَدِّهم وعُدَّتهم، وإصرارهم
على سحق المسلمين وكسر شوكتهم، والمسلمون بعددهم القليل، وأسلحتهم البسيطة، وكان
قتالٌ وحربٌ وسجالٌ، وأعزّ الله الفئة القليلة ونَصَرها على الكثرة المتبطرة، ونال
المسلمون فخار الدهر، وتاج الفوز.
وجاء أنس بن النضر إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
يا رسول الله، غبتُ عن
أوّل قتالٍ قاتلْتَ المشركين، والله لئن أشهدني قتال المشركين ليَرَيَنَّ الله ما
أصنعُ بهم.
قال هذا صادقاً راغباً في
الجهاد في سبيل الله، عازماً على نصرة دين الله، مصمماً على الدفاع عن كلمة الحق.
ولما جاء يوم أحد سنة ثلاث
من الهجرة انتصر المسلمون أول الأمر، لكن الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن لا يغادروا جبل الرماة،
حسبوا المعركة انتهت وتركوا أماكنهم، خالفوا الأوامر دون أن ينتبهوا إلى خطئهم،
وعصَوا أوامرَ الرسول القائد، ولم يكونوا يريدون ذلك، لكنّ هذا الخطأ الجسيم قلب
النصر إلى نكسة، ودارت على المسلمين الدوائر، وانكشفوا وقتل منهم خلقٌ كثير، وأصاب
معظمَهم القروحُ.
ورأى أنس بن النضر ما فعل
المسلمون حين لجأوا إلى الجبل منهزمين، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء،
وأشار إلى أصحابه، ورأى المشركين يقاتلون الإسلام ونبيّه ويكفرون بالله ورسوله،
ويفتكون بالمسلمين، فقال: اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وأشار إلى الكفار،
ثم تقدمَّ إلى المعركة يدفع المشركين، ويحفز المسلمين إلى الجهاد.
رآه سعد بن معاذ يلقي
بنفسه على المشركين، فقال له: يا أنس إلى الجبل، لذْ بجمع المسلمين، ولا تقاتل
وحدك، فقال أنس: لا يا سعد فما أنا بالذي يولّي دُبُرَه يوم الزحف، قال له: ليس
هذا فراراً، إنه ترتيبٌ وتنظيمٌ ليعيدوا الكرَّة على المشركين.
قال أنس: يا سعد؛ هذه
الجنة أمامي، أقسم بالله أنني أشمُّ رائحتها هنا، إنها بيني وبين أحد، يا سعد أقبل
وجاهد فإن لم يكن النصر، فالشهادةُ، وهي أسمى ما يطلبه المسلمُ، وكرَّ عليهم كما
ينقض الأسد الرئبال، يضرب يمنةً ويسرةً، حتى تكاثروا عليه فكان من الشهداء
الأبرار.
فلما انتهت المعركة، وجمع
المسلمون شهداءهم، يبكون عليهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الشهداء
أحياءٌ، وليسوا أمواتاً، ويستبشرون بنعمة من الله وفضل)).
وكان في جسم أنس بن النضر
بضع وثمانون ضربة بسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، قد مثَّل المشركون به، فما
عرفه أحد إلا أختُه، عرفته من أصابعه، رضي الله عن أنس بن النضر، صدق الله فصدقه،
رغب عن الدنيا فاختاره الله إلى جنته.
( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا )
رياض الصالحين
باب الجهاد في سبيل الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق