الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2014-11-19

هل ينطبق مثل (الرمد أشوه من العمى) على الحالة السورية قبل الثورة؟ - بقلم: طريف يوسف آغا

كنت قبل أيام في زيارة شخصية لمنزل أحد أصدقائي العرب غير السوريين حيث التقيت عنده مع مجموعة من أقاربه وأصدقائه، وكان موضوع الثورة السورية هو محور الحديث. قال لي صديقي بأن لاأحد ينكر الطبيعة الديكتاتورية لنظام الأسد، وأنه نفسه كان مع الثورة السلمية في بدايتها (قبل عسكرتها) ولكنه فقد ثقته بها بعد ذلك. ثم أضاف بأن الشعب السوري على الأقل كان (عايش وماشي حالو) ثم استعمل المثل الشائع: أليس (الرمد أشوه من العمى)؟


    عدت إلى البيت وأنا أفكر بهذا المثل وهل يمكن استعماله في هذا السياق؟ وشعرت بواجبي كسوري التعليق على ذلك وخاصة أنه أتى من أشخاص ربما لم يزوروا سورية في حياتهم، أو قاموا بزيارات سياحية لم تتعد الأيام، وبالتالي فمصدر معلوماتهم عن هذا النظام إنما من وسائل إعلامه وإعلام الدول الحليفة له والتي كرسته خلال العقود السابقة كنظام الممانعة والمقاومة الوحيد في المنطقة أو من خلال تلك  الزيارات السياحية القصيرة. في الواقع، فان الشعب السوري، وبعد عدة سنوات من وصول (الأسد الأب) إلى الحكم بانقلاب عسكري عام 1970، شعر بالمصيبة التي حلت به، وبات في مواجهة مباشرة ودامية معه، مما دعا النظام إلى كشف أوراقه وتطبيق سياسة (ياقاتل يامقتول) مع شعبه. وقد تجلى ذلك بتأسيس جهاز أمني ربما ليس له مثيل بالحجم والطبيعة الوحشية إلا في دول كالاتحاد السوفيتي حينها والصين وكوريا الشمالية وغيرها من الأنظمة الشمولية التي لاتستمر في الحياة إلا بسفك دماء شعوبها. ولكن وحتى هذه الأنظمة لايمكن للأسف مقارنتها مع (نظام الأسد) كون الجرائم التي ارتكبتها بحق شعوبها كانت مبنية على أفكار عقائدية معينة أدت في نهاية المطاف إلى جعلها دولاً عظمى، أما (نظام الأسد) فارتكابه للمجازر بحق شعبه كان من أجل اللصوصية فحسب وأدت إلى دمار البلاد في النهاية.
     يقول من لايعرف هذا النظام أن وصول عدد الضحايا منذ بداية الثورة إلى حوالي النصف مليون (من الطرفين) ماعدا الجرحى والمعتقلين والمهجرين، كان يمكن توفيره لو أن الثورة لم تقم أصلاً، أو لو وافق الثائرون على التفاوض مع النظام في بداية الثورة حين عرض عليهم ذلك ووعدهم باجراء إصلاحات. أشرت في مقالات سابقة إلى أن (الأسد الأب) كان يجري عمليات إعدام شهرية للمعتقلين في سجني تدمر والمزة وغيرهما، لالشئ ولكن لتفريغ الزنزانات للدفعات الجديدة من المعتقلين، ولو كان باستطاعته لاعتقل كل الشعب. ولكن بالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة لأعداد من تم إعدامهم في السجون، فهي وعلى مدى الثلاثين سنة من حكم (الأسد الأب)، لاشك تجاوزت مئات الآلاف. ويمكن تأكيد عدم المبالغة في هذا الرقم إذا عرفنا أنه أجهز على حوالي خمسين ألف سوري من المدنيين خلال مجزرة (حماة) الشهيرة عام 1982 في غضون اسبوعين، وعلى حوالي خمسمئة معتقل خلال مجزرة (سجن تدمر) في غضون ساعتين، فما بالك أن يفعل هكذا نظام على مدى ثلاثين عاماً من حكم الأب، وعشرة أعوام من حكم الابن؟ إذاً كل ماتغير مابعد الثورة أن القتل بات علنياً بعد أن كان يجري بسرية قبلها، أي أن (العمى) كان موجوداً قبل الثورة ولم يأتي بسببها، وهو من صفات حكم هذه الأسرة وليس من فعل الشعب، وأن (الرمد) لم يكن له وجود إلا في خيال من لايعرفون هذا النظام كما يعرفه شعبه.
     وأقول رداً على أن الشعب السوري كان عليه أن يتحاور مع النظام منذ البداية ولايوصل البلد إلى ماوصلت إليه، أقول أن الشعب قام فعلاً بذلك وعلى عدة مراحل. فقد شكل وجهاء درعا وفدهم الشهير وزاروا رئيس فرع المخابرات (عاطف نجيب، ابن خالة بشار) مطالبين بالافراج عن الأطفال المعتقلين، فماذا حصل؟ قلع أظافر الأطفال ورد على أعضاء الوفد بعبارته الشهيرة: انسوا هؤلاء الأطفال وأنجبوا غيرهم وراجعونا إذا احتجتم مساعدتنا! أتت بعد ذلك مرحلة الثورة السلمية والتي استمرت لستة أشهر كان لدى النظام خلالها الفرصة ثانية للحوار، ولكن مافعله كان الرد بالرصاص والدبابات والاعتقالات والتعذيب حتى الموت، وحادثة الطفل (حمزة الخطيب) أكبر مثال على ذلك. (مجزرة حماة) بحد ذاتها تؤكد أن هذا النظام لايمكن الثقة به، فهذه المجزرة بدأت عملياً بعد أن استسلم أفراد (الطليعة المقاتلة) حقناً لدماء المدنيين، فما كان من النظام إلى أن استباح المدينة لسرايا الدفاع بقيادة (رفعت الأسد) والوحدات الخاصة بقيادة (علي حيدر) والفرقة الثالثة بقيادة (شفيق فياض) وغيرهم. إذاً كيف يمكن للشعب الثقة بهكذا نظام لايعرف عنه إلا الغدر وسفك الدماء ويتصرف أسوأ من الاحتلال الأجنبي؟
     إن ماقام به نظام الابن بعد اندلاع الثورة هو استحضاره لمثال (مجزرة حماة) وتطبيقه على كامل التراب السوري، وهذا يؤكد أنه إنما يمثل استمراراً لنظام الأب. ورداً على من يقولون أن (بشار) رجل مهذب وخجول ومختلف عن أبيه، وكان من الواجب والممكن التفاهم معه، أقول لهؤلاء أن (هتلر) قد عرف عنه أيضاً أنه كان في شبابه مهذباً وخجولاً، ولكن هذا لم يمنعه من التحول إلى وحش ارتكب أكبر مجزرة عرفها القرن العشرين. ودعونا لاننسى أن (إيران) الخمينية الشيعية لم تتحالف مع دولة تحكمها طائفة تعتبرها عدوتها التاريخية (الطائفة العلوية) من أجل (سواد عيونها) كما يقولون، بل فعلت ذلك بهدف ضمها إلى أملاك مشروع الامبرطورية الفارسية كما فعلت قبل ذلك مع عربستان ثم لبنان والعراق، وتعمل حالياً على اليمن وعينها على تركيا والخليج ومصر وبقية دول شمال افريقيا. وقد أتت الثورة السورية لتفضح هذا المشروع وتعريه أمام من سيأتي عليهم الدور، وهذا برأي السبب الحقيقي والرئيسي لدعم بعض دول المنطقة للثورة السورية ليس إلا.
     هناك من يلوم السوريين ويقول لهم: ولماذا سمحتم لهذا النظام أن يستمر ويصبح بهذه القوة؟ وللاجابة أعود لما سبق وذكرته في مقالات سابقة أن الأنظمة العربية عموماً والدولة العلوية ممثلة بنظام الأسد خصوصاً كانت وماتزال (ضرورة) عالمية و(وسيلة) لتحقيق أهداف استعمارية في المنطقة بدأت باصدار (وعد بلفور) وتوقيع اتفاقية (سايكس بيكو) وماتزال سارية حتى اليوم. وإذا نظرنا إلى الأمور من هذا المنظار، نجد أنه قد تم استغلال رغبة وحاجة كل من اليهود والعلويين باقامة دولة لكل منهما كي يوضعا في مواجهة دموية من نوع (ياقاتل يامقتول) مع شعوب المنطقة بما يخدم أهداف الغرب، فكانت انكلترا عرابة (الدولة اليهودية) وفرنسا عرابة (الدولة العلوية). ماأريد قوله هنا أنه لو كان بامكان الشعب الفلسطيني منع قيام (دولة إسرائيل) حينها لكان بامكان الشعب السوري منع قيام (نظام الأسد)، وهذا مستحيل في الحالتين لأن القرار اتخذ من قبل دول عظمى لاقبل لشعوب ضعيفة ومتخلفة وخارجة لتوها من سيطرة العثمانيين لخمسة قرون أن تمنعها. ومن يعود لدراسة تاريخ سورية الحديث منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم، سيجد أن كل من حاول منع وصول هذا النظام إلى الحكم قد تم اغتياله أو إبعاده أو اعتقاله بانقلاب عسكري، واعترافات الرئيس السوري الأسبق (أمين الحافظ) وغيره أكبر دليل على ذلك.
     قد يقول البعض هنا: حسناً، بما أنكم لستم بوارد محاربة نظام مدعوم من قبل دول عظمى، عالمية واقليمية، لن تتخلى عنه، فلماذا ثرتم ضده ودمرتم البلد؟ أعتقد أنه ليس هناك جواب لهذا السؤال اليوم، وربما أتى الجواب في المستقبل. ولكن من المؤكد أن الشعب السوري لم يقدر أهمية دور (نظام الأسد) عالميا، وهو دور (البلطجي) الذي ينفذ المهام القذرة مقابل إطلاق يده في بلده والجوار، ولكن من المؤكد أيضاً أن هذا الشعب لن يعود إلى بيته بعد أن قطع هذه المسافة دون التخلص من سفاحه. كما أن عائلة الأسد نفسها لم تقرأ التاريخ ولاتعرف أن الأنظمة من هذا النوع، وحين ينتهي دورها، فسيكون مصيرها ومصير مؤيديها إما الموت أو التهجير، فالسيف الذي يوضع في يدها يكون سيفاً ذا حدين يقضي عليها في نهاية الأمر. مايعلمه النظام تمام العلم أنه، وبعد أن فعل مافعل على مدى الأربعة عقود السابقة، فليس أمامه (إما القصر أو القبر)، وهو سيفعل كل مافي وسعه لكي لاينتهي في القبر، أو ليؤخر سقوطه فيه، وإن كان ثمن ذلك دفن كل السوريين، وهذا تصرف لايقوم به كما سبق وذكرت سوى محتل، وليس من يعتبر نفسه من هذا الشعب.
     إذاً أصيب الشعب السوري بالعمى الكامل منذ مجئ عائلة الأسد إلى الحكم، ولكن الكثير منهم، وأيضاً من غير السوريين، كانوا يظنون أو يهونون على أنفسهم بأنهم إنما مصابون بالرمد فحسب، وهذه مصيبة بحد ذاتها لأنها تقودنا إلى مثل شعبي آخر يقول (يللي بيعرف بيعرف، ويللي مابيعرف بقول كف عدس).
***   
(يسمح بنشرها دون إذن مسبق)
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 10 محرم 1436، 3 تشرين الثاني، نوفمبر 2014
هيوستن / تكساس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق