ما عاد سراً أن الأسد الأب، وفي حرب حزيران 1967، أعلن
سقوط القنيطرة قبل سقوطها، وأمر الجيش السوري، من موقعه كوزير للدفاع حينها،
بالانسحاب الكيفي من المدينة مقدماً لها وللجولان على طبق من ذهب لاسرائيل.
ولاحظ المراقبون آنذاك أن العاصمة دمشق، وبالرغم من أنها
كانت في ذلك الوقت مكشوفة أمام الجيش الاسرائيلي، إلا أنه لم يتقدم لاحتلالها.
وهذا دليل آخر على صفقة من نوع: نعطيكم الجولان بدون قتال مقابل أن تسمحوا لنا
بالبقاء في الحكم، والله أعلم مقابل ماذا أيضاً؟ وفي كافة الأحوال، فأمر
كهذا كان يستحق عليه أي وزير دفاع آخر تقديمه للمحاكمة، إما بتهمة الخيانة أو في أسوأ
الأحوال بتهمة التقصير والتفريط بالأرض، لا أن يترك وشأنه ليقوم بانقلاب بعد ثلاث
سنوات ويستولي على الحكم.
ولم يعد
سراً أيضاً أنه وحين اتخذ النظام السوري الأسبق قراراً خلال أحداث ايلول الأسود في
الأردن 1970 بالتدخل لصالح المقاومة، كيف تحرك الأسد الأب من جديد ومن نفس الموقع
وأفشل التدخل بعدم سماحه لسلاح الجو بالمشاركة في العمليات.
وأخيراً،
وليس آخراً، فلم يعد سراً أيضاً كيف حاول النظام بعد ذلك محاسبة وزير دفاعه
وتقديمه للمحاكمة على تلك الأفعال، فقام الأخير بانقلاب سماه حينها وعرف فيما بعد
باسم (الحركة التصحيحية) وأودعهم السجن ليكمل (مسيرته) التي بدأها في حرب حزيران
وايلول الأسود.
وبطبيعة
الحال، فقد كان على الأسد الأب في بداية حكمه حينها أن يخلق لنفسه شرعية من نوع ما
لدعم احتكاره للحكم (إلى الأبد) وليجعل الناس تنسى أعماله التي سبق وذكرناها.
فاخترع مع بقية أصدقائه من الحكام (النصابين) ماسموه حينها (اتحاد الجمهوريات
العربية) ليداعبوا خيال شعوبهم (البسيطة) ويدفعوها للظن بأنهم سيحققون لها حلم
الوحدة العربية.
هذا كان على
الساحة السياسية، أما على الساحة العسكرية، فقرر مع شريكه المصري أن ينفذا ماسمياه
حينها (حرب تشرين التحريرية) والتي تبين فيما بعد بأنها كانت أبعد ماتكون عن
التحريرية. فهذا رئيس أركان الجيش المصري حينها الفريق سعد الدين الشاذلي يصرح
بعد الحرب بأن السادات قام بها كحرب (تحريكية) ليبرر بعد ذلك الدخول في
مفاوضات مباشرة مع إسرائيل. وهذا ماكان، ودليله على ذلك صدور الأوامر للجيش المصري
بايقاف تقدمه في سيناء عند الكيلومتر 12 وكذلك بعدم تصفية ثغرة الديفرسوار
الإسرائيلية غرب القناة. ومن جهة ثانية، فهذه هي غولدا مائير رئيسة الوزراء
الإسرائيلية آنذاك تقول في كتابها (التقصير) الذي وضعته بعد الحرب أن الجيش
السوري الذي تقدم إلى عمق الجولان خلال الأيام الثلاثة الأولى من الحرب، لم يكن
يتقدم كجيش يريد الاحتفاظ بالأراضي التي يحررها، بمعنى أنه لم يكن يقوم بتأمينها
عسكرياً للدفاع عنها أمام هجوم مضاد محتمل قبل التقدم إلى غيرها. هذا ماأتى في
المذكرات ولايمكن تفسيره إلا بأن الجيش السوري كان يتحرك كمن هو في سباق ذهاب
وإياب بحيث يريد الوصول إلى نقطة النهاية بسرعة ليعود ويتراجع بنفس السرعة إلى
نقطة البداية. وهذا باختصار يوحي بأن الأسد الأب إنما كان يريد أن يوحي لشعبه
وللعرب أنه حارب وحاول أن يحرر أرضه، مما يمنحه الشرعية التي هو بحاجة إليها ليبقى
في الحكم (للأبد). وقد ساعدته إسرائيل على تبييض صفحته بعد ذلك باعادة مدينة
القنيطرة المحتلة له (بعد تدميرها) مع شريط حدودي ضيق من الجولان المحتل ليستعمل
ذلك في المستقبل كانجاز يتباهى به أمام معارضيه وأعدائه وحجة يحاججهم بها. ثم عادت
وأعطته بعد حوالي السنة الضوء الأخضر لاحتلال لبنان في مقايضة من نوع (لبنان مقابل
الجولان) تحت سيناريو (إيقاف الحرب الأهلية) التي لم يكن من الصعب
أصلاً افتعالها لهذه الغاية. فإذا نظرنا إلى هذه الحرب الأهلية وسألنا أنفسنا من
كان المستفيد الأكبر منها، لكان الجواب بلا شك هو النظام السوري.
أما في
إسرائيل، فالوضع كان مختلفاً، والشعب هناك لايسامح السياسيين إذا فشلوا أو قصروا،
ولايسمون (فقدان الأرض) انتصاراً كما هو الحال عندنا. فكان على حكومة
العمال برئاسة غولدا مائير أن تعترف بتقصيرها وتستقيل لتفسح المجال لصقور
الحرب، وخاصة من حزب الليكود من أمثال مناحيم بيغين واسحق شامير وارييل شارون
وايهود أولمرت وبنيامين نتنياهو، ليتبادلوا السيطرة على الساحة السياسية في تل
أبيب لمعظم الأربعين عاماً القادمة. وقد فهم هؤلاء الصقور قواعد اللعبة مع نظام
الأسد الأب أولاً ثم الابن ثانياً، وهم كانوا دائماً على استعداد للتعاون معهما في
كافة المجالات ماعدا إعادة الجولان. وذلك لأهميتها العسكرية الاستراتيجية من جهة
والمائية من جهة ثانية. لاخوفاً منهما، ولكن خوفاً من سقوط نظامهما في يوم وانتقال
الحكم إلى أيد وطنية. فاسرائيل تعرف أن الأنظمة الديكتاتورية ومهما استمرت في الحكم،
فهي لابد ستسقط في يوم تحت مطالب شعوبها بالحرية والكرامة. ويبدو أن الأسد الأب
كان يفهم ذلك أيضاً، فحصن نفسه من أيام كالتي يمر بها النظام اليوم بأن خدم
إسرائيل خدمات جلى، من إهدائها الجولان ثم المساعدة على أبعاد المقاومة
الفلسطينية. وقد وصل هذا التعاون المكشوف أحياناً والسري أحياناً أخرى إلى حد رفع
الجنود الإسرائيليين لصور الأسد الأب امتناناً منهم على دوره باخراج منظمة التحرير
من لبنان ذلك العام. كما أن مجزرة تل الزعتر ضد اللاجئين الفلسطينيين والتي كان قد
ارتكبها بواسطة جيشه عام 1976 ودشن بها عهد دخوله إلى لبنان كوفئت من قبل الاعلام
العربي والاسرائيلي والعالمي بالتعتيم عليها بالرغم من حجمها وبشاعتها وعدد ضحاياها
الذي تجاوز 3000 فلسطيني. ولكن مكافئته الأكبر تلقاها في شهر شباط، فيبروري من عام
1982 حين غض المجتمع الدولي النظر عنه مرة ثانية، ولكن هذه المرة عن المجزرة
الرهيبة التي ارتكبها في مدينة حماة السورية والتي أسفرت عن قتل خمسين ألف مدني
خلال اسبوع بحجة مكافحة الارهاب.
استمرت لعبة
الحبل هذه بين نظامي الأب والابن لأكثر من أربعين عاماً بين الشد والرخي، وامتلأت
بقرع طبول الحرب والتهديدات والويل والثبور وعظائم الأمور كما يقولون. كما مرت
ببعض المواجهات الدونكيشوتية الرمزية لذر الرماد في العيون، أما النتيجة على الأرض
فهي أن فلسطين مازالت محتلة والجولان أيضاً مازال محتلاً والنظام الوراثي العائلي
مايزال يحكم سورية والنظام اليميني المتطرف مايزال يحكم إسرائيل. باستثناء الفترة
القصيرة التي عاد إليها حزب العمال للحكم برئاسة اسحق رابين والذي أرعب
النظام السوري واليمين المتطرف الإسرائيلي معاً حين وضع ماعرف (بوديعة رابين)
التي تهدف إلى تحقيق سلام شامل في المنطقة يتضمن إعادة الجولان كاملاً لسورية
باسلوب معاهدة (كامب ديفيد) المصرية الإسرائيلية. فلا النظام السوري كان يريد
الجولان، لأن ذلك يعني فيما يعني خروجه من لبنان، ولا اليمين الإسرائيلي كان
مستعداً للتخلي عن الهضبة لأهميتها الاستراتيجية والمائية، فانتهى الأمر باغتيال
الأخير لرابين عام 1995 ووضعه حداً لهذا المشروع. بعد ذلك عاد العدوان الحميمان
إلى قواعد لعبة اللاحرب واللاسلم من جديد بشد ورخي الحبل والحرب الإعلامية.
فاليمين الإسرائيلي المتطرف عليه دائماً أن يخيف شعبه من (الخطر القادم من
الشمال) ويقنعه بأنه أفضل من يحميه من ذلك الخطر. أما النظام الأسدي فعليه
دائماً أن يقول للسوريين والعرب بأنه يمثل (آخر قلاع) مقاومة المد
الصهيوني، وأنه إنما يحضر نفسه لزمان ومكان المعركة المصيرية مع العدو والتي
سيختارها بنفسه ولن يفرضها عليه أحد وعليه من أجل ذلك أن يستمر بتطبيق قانون
الطوارئ ليحافظ على الاستقرار والأمن بأي ثمن (وهو في الحقيقة يعمل على نهب خيرات
الوطن بحجة تلك المعركة التي لم تأت بعد)
ولكن يبدو
أن الشعب السوري قد مل أخيراً من التظاهر بأنه كان يصدق لعبة شد الحبل هذه بين
نظامه وإسرائيل، وأنه لايرى الفساد واللصوصية المستشرية في رجالات النظام
والمقربين منهم، فانتفض مع بقية شعوب الربيع العربي تحت شعار (الشعب يريد تغيير
النظام). وأعتقد من جهتي بأن الشعب الإسرائيلي سيصل أيضاً وقريباً إلى نفس
النتيجة وسيقوم باقصاء حكامه المتطرفين، وسيرسل إلى سدة الحكم بمن لديهم القدرة
على تحقيق سلام حقيقي وعادل. ليس مع جيرانه العرب فقط، ولكن مع الفلسطينيين أيضاً،
وسيعترف أن فلسطين ما كانت في يوم وطناً بلا شعب لشعب بلا وطن. وسيوافق على حق
العودة ويعوض أسر الشهداء ومن أصيبوا بعلل دائمة على يد الاحتلال، ويعيد الأرض
لأصحابها ممن أخذت منهم عنوة ويجد صيغة لحياة مشتركة في دولة مدنية ديمقراطية
واحدة بسلام وليس بقوة السلاح، ويكون فيها للجميع، فلسطينين وإسرائيليين نفس حقوق
المواطنة دون تمييز.
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
الاثنين 19 ربيع الثاني 1433، 12 آذار، مارس 2012
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق