أبنائي الأعزاء... لا أريد أن أزيد من
آلامكم في شرح ما عانيت منه، وأنا في مرحلة المخاض، داخل رحم صممت له جُدر من
القهر والذل والألم ومحاولات للإجهاض... أربعون سنة؛ بل أكثر، وأنا أحاول أن أخرج
إليكم، لأحمل أغلى هدية يمكن أن يقدمها حبيب لمحبوبيه...أقول "أغلى
هدية" لأن شوقكم إليها أشد من شوق صاد ظمآن لماء عذب في صحراء مقفرة، ليس
فيها شجرة ولا ذو وبرة، شمسها تكاد تحرق كل شيء، فلا يبقى له ظل ولا فيء......
كانت هدبتي لكم هي ((الحرية))...حفظتها بين ضلوعي، وينطق بها خفقان قلبي.. أنا
أعلم أنكم لم تعرفوا لها طعمًا من قبل... وإنما كان شوقكم لها ناجمًا مما تسمعونه
عنها... عن سحرها في تحويل العبيد إلى سادة... وفي تحويل الناس من موقع التبعية
إلى موقع الريادة والقيادة، بها يغدو الذليل عزيزا، واليائس متفائلاً، والمهان
كريما، وبها يغدو الأصم الأبكم الأعمى فصيحًا وبليغًا؛ ومبصرًا وعليما.....
وحين عزمت على الخروج بأي ثمن؛ حملتها على
عاتقي، وطرت بها في سماء الوطن الحبيب فتجاذبتها نفوسكم وهي تطير من الفرح
وبالمتاعب لا تبالي..فأحسستم بها روحًا يسري في عروقكم، وأيقنتم أنها أغلى
الغوالي...
أبنائي الأعزاء قصة ميلادي طويلة ... فأول
ما كنت أحتاجه هو هدم جدار أقامه أعداء الحرية، ليحول بيني وبين إيصال الهدية
إليكم... جدار قوامه الرعب، ولبناته رؤوس وأشلاء ، وملاطه طين شامي مجبول
بدموع ودماء...أما طلاؤه فقد كان ذهبيًا نقشت عليه عبارة كانت بيت القصيد في إرجاء
ولادتي، وتأخير وصول هديتي... كتبت عليه عبارة (( جدار المقاومة والممانعة)).. أجل
إنه جدار ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب... جدار ظاهره أمن وأمان، وعز وسلام،
وباطنه خوف ورعب، وذل وقهر وحرمان... كنتُ كلما اقتربت من هذا الجدار لأزيحه من
طريقي أفاجأ بأياد تصدني، وألسنة تحذرني، وإلى الوراء تدفعني، ومما كان يحز في
نفسي أن كثيرًا من تلك الأيادي، والألسنة، كانت لأصدقاء أعزاء على نفسي، خُدعوا
بما نقش على الطلاء... وضلت عيونهم عما في ذلك الجدار من شر وبلاء..ومضى على هذه
الحال أكثر من أربعين سنة؛ كان فيها رحم سوريا، ينقبض وينبسط، ويرتفع
وينخفض...يتأهب ليعلن بدء المخاض لولادتي أنا محدثتكم "الثورة السورية"
...حتى بلغ التعب أقصاه، واليأس من الولادة مداه... ودخل في روع الجميع أن
سوريا عقيمة، وأنه لا يمكن أن تولد فيها ثورة عظيمة... ولكن رحمة الله التي
وسعت كل شيء مما بطن أو ظهر؛ تداركتني فجئتكم على قدَر... جئتكم في أول إطلالة
للربيع أحمل زهرة الحرية لتستنشقوا عبيرها، وتصفو نفوسكم بأريجها... أما بقية
القصة فأنتم تعلمونها شهرًا بشهر، ويومًا بيوم، وساعة بساعة، ودقيقة بدقيقة...
وتعلمون كم قدم شعبكم العظيم من دماء وأشلاء، جادت بها رجال ونساء، وشيوخ أتقياء،
وأطفال أبرياء.. وتعلمون مدى الجنون الذي تلبس به عدو الحرية اللدود، بما ينطوي
عليه من قلب حجري حقود... فخرب ودمر، وبما لديه من قنابل ألقى وفجر، ومن صواريخ
للمدن والقرى رمى وأمطر، وأنتم صامدون صابرون، لا يزيدكم ذلك إلا مضاءً وعزيمة،
وشوقًا عارمًا إلى حياة حرة كريمة... وخرجوا في كل مدينة وبلدة وقرية، بي يحتفون،
ولنصرتي يتسابقون،، يريدونني أن أزداد نموًا وقوة، ولو كان ذلك بإزهاق أرواحهم،
وإهراق ودمائهم... وتحقق ما أرادوا، فأحسست أن عودي يشتد يومًا بعد يوم صلابة، وأن
ظلالي أوشكت أن تغطي سهول وطني الغالي وجباله ووديانه وهضابه.....وها أنذا أقف
اليوم أمامكم بعد أن صار عمري عامًا كاملاً... يتجاذبني نقيضان.. فرح عارم على ما
صرت إليه من شدة وبأس، وعلى أن هديتي قد سمت بها كل روح وعلا بها منكم كل رأس...
وبين حزن كبير كاد أن يُذهب نشوة ذلك الفرح...وهو ما تجلى مع مرور الأيام
واتّضح... هذا الحزن ليس على ما دفعتم من شهداء، ولا على ما جادت به أرض سوريا من
فلذات أكبادها الأصفياء... لا.. ليس حزني على هؤلاء... فهم مضوا إلى ربهم شهداء...
أحياء مرزوقون.. وبنعيم الله يسرحون ويمرحون... لكنني حزينة على ما أراه كل يوم ،
من دعاة لشق صفوفكم، وإذهاب ريحكم، وإفساد ذات بينكم... وفيكم سماعون لهم، يغترون ببريق
شعارات يرفعونها، ومعسول عبارات يطلقونها... ينتقدون في كل وقت وحين، ويستخفون
بأعمال العاملين، لا تكادون تجمعون على أمر إلا وينفضّون عنه بمساعيهم اللاحميدة،
وبكل مكر ومكيدة... يتصيدون أي خطيئة أو هفوة...يفعلون ذلك مخدوعين بما يخطط العدو
لهم من حيث لا يشعرون، وبما يوحيه إليهم عن طريق شياطينه من الإنس يأتمرون... وها
أنا اليوم أخاطبهم فأقول: لا تفعلوا ما عجز العدو عن فعله... فكم حاول أن يجهضني،
ويجهز علي ويحبطني، واستنفر وجمع وأعد، فاستعصيت عليه وكنت أخرج كل مرة أقوى
وأشد... وكم حاول أن يحرفني عن هدفي وغايتي، فما وجد مني إلا إصرارًا عليهما بكل
طاقتي وقوتي... أما أنتم؛ فإن لم تَصحُوا من غفلتكم، وتُنهوا فرقتكم وتشتتكم،
فستكونون قاصمين لظهري، عاملين على خذلاني ووَتري......
يا أبنائي، أنتم بشر، تخطئون
وتصيبون، تنجحون وتخفقون، أفكلما ند من أحدكم خطأ قام بعضكم عليه بالعصا والسيف،
وقذفه بالظلم والجور والحيف... فهلا صبروا عليه صبر الأخ على أخيه، وترفقوا به به
ترفق الطبيب بالمريض الذي بين يديه... أقول لهم: كونوا عقلاء راشدين، ولا تكونوا
حمقى مغفلين، ولا تقَدّموا لعدوكم هدية مجانية، فتندموا ندامة أبدية... واعلموا بأن
هناك فَرقًا بين كلمة ناصحة، وتهمة فاضحة.. فالأولى تبني وتعمر، والثانية تهدم
وتدمر... فعضوا على الأولى بالنواجذ، وسدوا أمام الثانية جميع الأبواب والنوافذ...
واعلموا أن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار... وإياكم أن تجعلوا من حراككم
حقول تجارب، تفسحون لها المجال لكل طالب وراغب، تضيعون بها أعماركم، وتبعثرون
طاقاتكم، وتُفرحون عدوكم... بل اصبروا على ما وُفِّقتم إليه، ونمُّوا محاسنه،
وأبعدوا مساوئه، وصونوا جيده، وانفوا رديئه وخبيثه...
يا أبنائي إن ثماري متنوعة، وعلى أغصاني
العديدة موزعة، ولكل منها وقت معلوم... فإذا حان قطاف بعضها أدنيته منكم فسارعوا
إلى قطفه بهمة وإتقان، ولا تتأخروا عنه بعد فوات الأوان، وإياكم أن تتعجلوا في قطف
ما لم يحن موعده، فترجعوا بالخيبة والخذلان، وحذار أن يتسلل بينكم من ليس منكم
فيقطف ما أعددت لكم، ويسرق حقكم ورزقكم...
يا أبنائي أوصيكم بنفسي فلا تضيعوها بنزاع
يشب بينكم، وأوصيكم بأنفسكم فلا تظلموها بتناحركم وتباغضكم... ابدؤوا العام الثاني
من عمري وأنتم بارون بي، اعرفوا حبائل عدوكم ومصائده، وفوتوا عليه من أن يحصّل عن
طريقكم أي فائدة... اقتربوا من بعضكم بالحب والنصح والقول الحسن، واطردوا الشيطان
من بينكم بعصيانه والبعد عما جمّل وزيّن...
يا أبنائي أطيعوا فيكم كل رجل حليم رشيد،
ذي قول مفيد، ورأي سديد ، فهم قوم حنكتهم التجارب، وصقلتهم المحن، ولا يغتر أحد
منكم بما أوتي من علم وعمل فيُقْصي، بغروره، عنه الحبيب، وعندئذٍ يدعو فلا يجد من
ملبٍّ أو مجيب... واعلموا أنكم إذا أعددتم ما تستطيعون؛ كفاكم الله ما عنه تعجزون
ولا تطيقون... وعلقوا أملكم بالله الذي بعثني إليكم في وقت لم يكن مجئيى عندكم
بالحسبان... واعلموا أني على موعد معكم فيما ذكَّرتكم به فأروني منكم ما يسرني في
كل زمان ومكان...
الخميس 22 ربيع الآخر/1433 الموافق لـ
15/آذار/2012
محمد جميل جانودي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق