الثورة السورية
ثورة شعب, وليست ثورة حزب أو جماعة, قامت بسبب تراكم الظلم والقهر, وتكميم
الأفواه, والقتل, وإرهاب الدولة, ونهب الثروة, وغياب العدل والمساواة, وإشاعة روح
الخوف, وصدق من قال: إن الجدران لو نطقت في بلدي, لقالت إني خائفة.
ثار الشعب على
جلاّديه, وخرجوا بصدور عارية لإقرار العدل بين الناس, والدعوة إليه, وليكون الناس
في دائرة العدل سواء, لافرق في ذلك بين أحد, ولو اختلف الدين, أو تباينت الملل,
وهي قاعدة عامة,لأنك ما إن فرقت بين الناس في هذا الشأن, فإن الثورة تعود على
أصلها بالإبطال, والعاقل لا ينحر نفسه.
ولما كانت قوى
التشويش, تسكن في زوايا الفتنة, في كل زمان ومكان, فلا بد أن يظهر هؤلاء في زمن
الثورة, خصوصاً من أنصار النظام وأعونه, وإن لبسوا ألبسة إرادة الخير, ورفعوا
لافتات الخوف على المسيحيين في المستقبل السوري القادم.
في سورية الغد,
ستحفظ خصوصيات الناس, على اختلاف أديانهم, فالدين لا إكراه فيه,( لا إكراه في
الدين)0وتعايش الناس على هذا المبدأ مئات السنين, على قاعدة قول الله تعالى:( لكم دينكم ولي دين).
وزخر تاريخنا
التالد, وتراثنا الماجد, بصور مشرقة, وملامح مبهرة, تحكي قصة حضارة أمة, ترجمت هذه
المعاني والقيم, إلى سلوك فعال, وتبادلية فهمية قلّ مثيلها
في عالم يموج
بلغة التغالب, فاطمئن الناس, وعاشوا آمنين.
يقول الأستاذ فارس
الخوري: ( لا يمكننا محاربة النظريات الهدامة, التي تهدد كلاً من المسيحية
والإسلام, إلاّ بالإسلام).
إنها كلمات رجل
مجرب, وسياسي محنك, ومهني ممتاز, ولما رأى السوريون فيه مثل هذه المواهب, اختاروه
عام ثلاثة وأربعين من القرن الماضي, رئيساً للوزراء,
واختاروه بعد عام
رئيساً للوزراء, وفي عام خمسة وأربعين كان رئيس الوفد السوري إلى الأمم المتحدة
لجلاء الفرنسيين, وفي عام أربعة وخمسين, كلفه الرئيس هاشم الأتاسي, بتشكيل حكومة
جديدة.
وفي سورية, هذه
المسألة أخذت كل أبعادها, في أطر التعايش, وأسباب التعامل الحسن بين أبناء الوطن
الواحد,مع البر والقسط, ففي الحارة الواحدة يكون المسلم والمسيحي, وكذلك في
الوظيفة, وفي سائر مرافق الحياة ومناحيها, من خلال نسيج اجتماعي قل مثيله في دنيا
التعدد الديني, ليرسم صورة تمثل واقعاً حضارياً, رسمته أفعال وأقوال السلف, حتى
نزل في مراتب الرفعة إلى مدارج الخلف.
( لا ينهاكم الله
عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم,
إنّ الله يحب المقسطين) فلم يعرف المجتمع السوري, صراع الأديان, ولا تحارب
المختلفين في الدين, ولا يذكر لنا التاريخ أي صورة من صور هذه المسألة, ولو في
واقعة بين حارة ومثيلتها, فضلاً عمّا هو أكبر من ذلك, كما هو الشأن في بلدان أخرى.
يقول الذين خبروا
التاريخ القديم والمعاصر: إنهم لم يحفظوا واقعة واحدة اقتتل بها مسلم مع مسيحي
بسبب أن هذا مسلم, وذاك مسيحي.
فالناس يتقاتلون,
لسبب من أسباب الخصام المعروفة بين أبناء المجتمع, بل كثيراً ما يقول المخاصم
لواحد بسبب تجارة أو عقار أو مال: لم أكن أعلم أن خصمي من الدين الفلاني, إلاّ بعد
انتهاء المخاصمة.
إن الذي يثير
الطائفية ويذكي نارها, ويخوف الناس من بعضهم هو النظام, إنّ الذي يخوف بعض الطوائف
من قادم الأيام بعد انتصار الثورة, هم شبيحة النظام, وأزلامه من سوريين, ومن غير
السوريين, إن الذي يرعب بعض ضعاف النفوس,
ممن لم يقرأ
التاريخ, ولم يعرف حقيقة الواقع, هم الطابور الخامس الذي يصنع هذه المشكلة لصالح
النظام.
وسبب هذا معروف
لكل ذي لب, أو ألقى السمع وهو شهيد, وهو أن النظام يريد تأييد الطوائف, وضمهم إلى
صفه, ليقول لهم: ليس لكم سواي, وإياكم أن يحل أحد مكاني, لأنه إن كان كذلك,فالذبح
ينتظركم, والموت الزؤام سيكون من نصيبكم, وسيحرق الأخضر واليابس, فلا تلوموا إلاّ
أنفسكم, ليكونوا أنصاراً له, ويحرصوا على بقائه, وبهذا يكسب النظام الرهان على
هؤلاء القوم.
وأعتقد بأن هذه
الحيلة لا يمكن أن تنطلي على من عنده مسكة من عقل, بل هي لعبة مكشوفة يدرك شرها
وخطرها القاصي والداني, والصغير والكبير, والعالم والجاهل, ذلك لأنها جهل أقرع.
النظام لما ارتكب
جريمته الكبرى في حماة, عام إثنين وثمانين من القرن الماضي, لم يفرق بين مسجد
وكنيسة, بل هدم المساجد والكنائس, وعندما قتل الناس لم يفرزهم, بل قتل دون هوادة,
كل من لم يصفق له.
وأثناء حملاته
الرعناء, في اعتقال أبناء الشعب, لم يمنعه ذلك من اعتقال(مصطفى خليفة) الذي كتب
(القوقعة), وحكى فيها ملحمة ما جرى له, ولغيره من أبناء الوطن, خصوصاً من أبناء
جماعة الإخوان المسلمين, فلم يشفع له أنه مسيحي, أو أنه ليس من الإخوان المسلمين.
لقيت في مؤتمر من
المؤتمرات مسيحي من محافظة حماة, فتجاذبنا أطراف الحديث
عن الثورة, في
سورية, فوجدت فيه وعياً نادراً, واستيعاباً لأسباب الثورة, وتصوراً
راقياً لضرورة
قيامها.
فأبناء سورية
أوعى من أن يخوفهم النظام من بعضهم, بل بسقوط هذا النظام وزواله القريب بإذن الله
تعالى, سيكون أبناء الشعب, أكثر ألفة, وأقل مشكلات, ذلك لأن الشيطان الذي كان يحرش
بينهم ولّى وراح واندحر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق