بسم الله الرحمن الرحيم
يوم
تشققت السماء بالغمام، ونزلت الرحمة الشاملة على أوطان طالما عانت من الاستبداد السياسي،
والتسلط الفئوي، والانحلال الأخلاقي، والفساد المالي، والعمالة لعدو الأمة الخارجي
.. يومها بدأ الربيع العربي على أمة طال رقودها، ونفد من محركات القطار الحضاري وقودها
.. حيث غرقت في سبات عميق ظن الكثيرون من أهلها _فضلاً عمن هو بعيد أو معاد لها_ أنها
لن تستفيق أو ترى النور مرة أخرى ..
هذا
الحدث الكوني الكبير زلزل المنطقة، ووصلت توابعه إلى ما وراءه، حتى أصابت الغيْرة عددًا
من دول العالم الخارجي الذي تحركت فيه قوى التغيير في كل مكان بأسباب مختلفة اقتصادية
أو اجتماعية أو سياسية .. مركز هذا الزلزال هو الأرض العربية التي انطفأ فيها النور
لزمن طويل، وساد في أجوائها ظلام دامس؛ بسبب تلك الأنظمة القمعية البالية المتخلفة
.. حتى كشفت تلك الهزة القوية عن معدن تلك الشعوب التي صبرت على الاستبداد، وعانت من
الطغيان، وتحملت من الأثقال ما تنوء به الجبال ..
بدأ
خيط الضياء يمتد وينداح من غرب الوطن، فغطى معظم ذلك الطرف العزيز حتى عمه في ثلاثة
أقطار من أهم بقاعه الفاعلة في أمتنا .. كان ذلك في تونس إلى مصر، وليبيا ثم عبر إلى
المشرق في جنوبه القصي حيث اليمن موطن العروبة ومادتها الأولى، ثم استقر في سرة بلاد
الشام، ونقطة الفعل والجذب فيها .. سورية التي تمثل عقدة المجد ولؤلؤته الثمينة على
صدر هذه الأمة .. سورية هذه مر على ثورتها اليوم عام كامل من النضال العنيد، والبأس
الشديد، والمعاناة القاسية .. بحيث تجبر الظلم واختال، وتاه على شعبنا الاستكبار وتفرعن
.. لكن كل ذلك لم يفت في عضد شعبنا، ولا أوهى من مقاومته، ولا فل من عزمه .. فما أن
ينحصر القصف المدمر عن منطقة أو يتراجع في ناحية أو يتوقف في جهة ما، حتى تلتهب تلك
الناحية باحتجاجات عارمة تهز أركان النظام، وهي بهذا الحماس المتدفق، والإصرار المقاوم،
والمجابهة الصاخبة تخيف ذلك النظام البائس، وتشغل دوائره، وتثير في أوصاله القلق والترقب
والانتظار ..
الربيع
العربي الذي حطّ رحاله في قلب بلاد الشام، سورية الشامخة؛ كان شيئًا آخر غير ذلك الذي
مر على أقطار العروبة التي سبقت بلقياه، وصافحت محياه، وتضمخت بعطره ونداه .. ففي قطرين
عزيزين غاليين؛ تونس ومصر، مر بسلام أو أقرب إلى السلام .. إذ كانت لهما من العوامل
ما ساعداهما على جني ثماره، واحتضان حصاده، وتحقيق أهدافه بشكل جنبهما كل السلبيات
التي نشبت أظفارها في الأقطار الأخرى، مثل ليبيا التي كان للتدخل الأجنبي الأثر الحاسم
الذي قدمها مكافأة بالثمن الباهظ الذي قدمه الشعب العربي هناك .. وكان لليمن السعيد
معاناته التي لعبت فيها عوامل الداخل القبلية، وتشابك المصالح الخارجية جوارًا وأجنبيا؛
دورًا أخرجها من محنتها غير مريحة، ولا مكافأة للتضحيات التي قدمها أهل اليمن، لكنهم
خرجوا هناك بأمل مرتقب، ومستقبل واعد، يحمل أماني رجاء، وانتظار فرج ورخاء ..
لكن
الربيع في سورية لم يكن هذا ولا ذاك، كان ربيع شعبنا أمرًا آخر تصالحت عليه من الهموم
والأثقال بقدر ما عجزت تلك الهمم عن النهوض المتأخر، والاحتمال المستكين، وبقدر ما
غلا ذلك المطلوب كانت فعلات تلك المعاناة، ورميات تلك العداوات .. إنه الحسن كم يجر
على الحسناء شرًّا وكم يهين حرائر ..
لقد
عنونا لهذه الدراسة التي تحيي الذكرى الأولى للثورة السورية .. "بالقضية السورية"
ولم نقف عند عنوان الثورة فحسب، ذلك أن المسألة السورية لا تنحصر بالثورة، ولا تنتهي
بانتصارها .. حيث يذهب مصطلح القضية السورية في الماضي إلى مرحلة الاستبداد التي بدأت
بوصول هذا الحكم الممتد منذ أوائل الستينيات بانقلابه العسكري 8/3/1963م، ثم مرحلة
الثورة اللاهبة، وما زال لظاها يتسعّر في كل أنحاء سورية حتى الآن، وذلك من أجل استعادة
الكرامة، ثم بناء سورية الحديثة بعد الانتصار بإذن الله ..
القضية
السورية منذ بداية عهدها بالاستبداد مع مطالع هذا الحكم الجائر، وحتى الثورة المباركة
المستمرة في هذه الأيام لها أبعادها المختلفة .. الإنساني منها والسياسي والاقتصادي
وكذلك الاجتماعي ..
فالبعد
الإنساني لا يقتصر على اليوميات المريرة لأطول ثورة في الربيع العربي، بل يضرب في الزمن
الماضي قبل الثورة وأثنائها .. ففي عام 1979م من القرن الماضي تاريخ الصراع بين نظام
"البعث" بقيادة حافظ أسد، ومعارضيه، وعلى رأسهم شباب الإخوان؛ حيث تفاقم
هذا الصراع الدامي في مجزرة حماة، مأساة ذلك العصر .. والتي سبقها إصدار حافظ أسد القانون
رقم 49 عام 1980م، والذي ينص على ما يلي "يعتبر مجرمًا ويعاقب بالإعدام كل منتسب
لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين .."؛ حيث أدى ذلك القانون الهمجي الرجعي المتخلف،
والذي يمثل قمة حقد النظام على الإسلام والإنسان والحرية .. إلى إزهاق أرواح الكثير
من الأبرياء، ومعظمهم بالشبهة ولا علاقة لهم بالجماعة، ثم تتالت المجازر في كل المدن
السورية من جسر الشغور إلى تدمر وحلب والأرياف السورية جميعًا، حتى وصلت المجزرة كما
أشرنا سابقا إلى حماة 1982م .. لقد تفاوتت الأرقام التي ذهبت في هذه المجازر حتى وصل
بعضها تقديرًا من أربعين إلى سبعة وأربعين ألفا، فضلاً عن آلاف الجرحى، والمفقودين
والمعتقلين ومئات المغتصبات من الحرائر، ومن ثم تدمير المدن في كثير من أحيائها المكتظة
..
في
البعد الإنساني كانت هناك أبعاد فرعية عديدة؛ حيث غادر مئات الآلاف السوريين وطنهم
ليتشتتوا في أصقاع الأرض خوفًا من القمع، وفرقًا من الاعتقال، وهناك هاموا على وجوههم
بلا وثائق تثبت شخصياتهم، ولا جوازات سفر في معظمهم، وحتى من يحمل ذلك الجواز، فإنه
لا يستطيع تجديده من سفارات النظام أو الحصول على تأشيرة ما، فضاق عليهم العيش، وألجأتهم
الحاجة إلى تدبير أنفسهم بكل وسيلة ممكنة .. استمر هذا الحال سنين طويلة، وقد قضى الكثير
منهم نحبه خارج وطنه وبعيدا عن أهله وصحبه، ومن عاش استوطن بلدانًا أخرى، وبقي قابضًا
على جمر الحلم، ينتظر الفرج القادم بلا يأس أو قنوط ..
حتى
جاء حكم الوريث النكد الذي لم يستطع أن يحرر نفسه من جرائم أبيه، فلم تبق هذه الأوضاع
على حالها البائس بل زاد فيها من النسيان والإهمال ما جعله صورة مشوهة هازلة عن حكم
الوالد المغضوب .. بحيث دفعته تلك الأجهزة الأمنية بسطوتها المتفاقمة على رئيس ضعيف
إلى تغطية هذه الماساة وضحاياها، وأكثرهم من السوريين، ويعضهم من العرب ، وبخاصة اللبنانيون،
بحيث ينساها العالم ولا يذكرها أحد ..
كل
ذلك جرى قبل الثورة التي انطلقت منتصف شهر الربيع آذار، وكان ما جرى فيها من قتل أضاف
إلى جرائم النظام السابقة، جرائم فظيعة ودمارًا واسعًا، وانتهاكات خطيرة، فقد بلغ عدد
الشهداء أكثر من اثني عشر ألفًا غير الجرحى والمعتقلين والمشردين .. كما برزت مشكلة
النزوح إلى تركيا ولبنان والأردن الذين ضاقت بهم سجلات الإحصاء، ولا تزال مفتوحة تسجل
كل يوم جديدًا ومريعًا ومؤلمًا ..
في
القضية السورية لم تشذ الثورة فيها عن سلمية الحركات الاحتجاجية التي حدثت ضمن الربيع
العربي، لكن الوضع السوري تميز بقسوة المواجهة القمعية الذي جرى اتباعها منذ بداية
الأحداث، حيث ساهمت هذه القسوة بتأجيجها وانتشارها، وما زالت على ذلك النهج مصرة بلا
تراجع .. بل تطورت هذه المواجهات إلى حرب حقيقية استخدم فيها النظام كل أنواع الأسلحة،
وكل فنون الحرب الحديثة، وتدميرُ المدن السورية اليوم شاهد على ذلك ..
بدأت
حركة الاحتجاجات في سورية يوم 15/آذار مع كسر نشطاء معارضين حاجز الخوف مع أول بادرة
لمظاهرات سياسية مباشرة في العاصمة ومدن أخرى للمطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين،
ولم يكن ما سبقها من مظاهر احتجاج ذا طابع سياسي مباشر برغم أهميته .. فتظاهرة 17/شباط
جاءت رد فعل تضامني محلي على حادث اعتداء شرطي على بائع عربة في منطقة الحريقة بدمشق،
والاعتصام الشبابي في 22/شباط أمام السفارة الليبية في دمشق تضامنا مع الشعب الليبي
عبرت شعاراته المنادية بالحرية عن واقع غياب الحريات والممارسات الديمقراطية في سورية
..
الحركة
الاحتجاجية تطورت بسرعة فائقة بعد الانتفاضة الشعبية في درعا بالطريقة العصبية والقمعية
التي جوبهت بها التظاهرات من رجال الأمن، إذ انطلقت أحداث درعا على خلفية اعتقال قوات
الأمن السورية 15 صبيًّا في المدينة في 6/ آذار ولم تكن أعمارهم تتجاوز 14 عامًا، لأنهم
كتبوا شعارات على الجدران "الشعب يريد إسقاط النظام" وذلك محاكاة لشعارات
الثورة المصرية في ذلك الوقت، ثم جاءت الاحتجاجات رد فعل لتعامل رئيس فرع الأمن السياسي
في درعا عاطف نجيب، والمحافظ فيصل كلثوم المهين مع وفد العشائر والأعيان الذي حاول
التوسط لإطلاق سراح الصبية ..
تطور
المشهد السياسي مع المظاهرات الحاشدة التي عرفتها جمعة الإصرار 15/نيسان على مستويين
أولهما؛ الاتساع الواضح للاحتجاجات السلمية وشمولها النسبي درعا واللاذقية وبانياس
وحماة ومدنًا أخرى لم تصلها سابقًا في المناطق الكردية والجزيرة .. وثانيهما تظاهر
السلطات بنأيها عن استخدام العنف المباشر .. وقد تبين أن ذلك خداع موّهت به السلطات
أعمالها الانتقامية بسقوط مئتي قتيل في تلك المواجهات، كما زاد ذلك الرقم في أحداث
الجمعة التالية ..
في
الحالة السورية كما هو الحال في الانتفاضات العربية الأخرى؛ كان المسجد المكان الرئييسي
للتجمع وانطلاق المظاهرات، ثم الميادين العامة، وليس في ذلك غرابة فالمسجد هو الذي
يجمع جماهير هذه الأمة، وبخاصة يوم الجمعة لفرضيتها على كل مسلم .. من هنا كان التجمع
أمرًا شرعيًّا تستفيد مه الاحتجاجات من أجل الحرية والعدالة كمطالب لهذه الجماهير،
وبما أن هناك أصواتًا تضيق بمثل هذا الاتجاه الأصيل فقد شغب هؤلاء على هذه التجمعات
المسجدية، استغل النظام هذه الدعوة عبر استخدام تعابير مثل الفتنة الطائفية وأمثالها،
والنظام يخوف بمثل هذه الاستفزازات ليثبت أن الدولة السلطوية وحدها تحافظ على وحدة
المجتمع، وأن مطالب المحتجين سوف تؤدي إلى الفتنة، وأنه هو الضامن الوحيد الأساسي للأقليات
والوحدة الوطنية، ومن المعلوم أن الطوائف مع الشعب السوري كافة تعاني من استبداد هذا
النظام كما تعاني المناطق النائية من التفاوت التنموي والتهميش ..
في
يوم الأربعاء 30/مارس آذار ألقى الرئيس السوري بشار للمرة الأولى منذ بدأ المظاهرات
خطابا في مجلس الشعب محاولاً فيه تهدئة الأوضاع في البلاد، لكن ما أن انتهى الخطاب
حتى خرجت المظاهرات صاخبة شارك فيها المئات من مدينة اللاذقية تعبر عن غضب المواطنين،
وأنه لا يحتوي على الإصلاحات المطلوبة، فواجههم المسلحون من السلطة بإطلاق النار العشوائي
الذي أسقط خمسةً وعشرين شهيدًا، وكان هذا الخطاب هو المفجر القوي للثورة السورية لما
تضمنه من استهزاء بمشاعر المواطنين وبنبرة التهديد واللامبالاة التي خرج بها على الناس
..
تحت
الضغط المتزايد أعلن بشار في 7/ نيسان عن منح الجنسية للمواطنين الأكراد في سورية رشوة
ظاهرة الهدف والمعنى، بعد حرمانهم منها لعقود طويلة .. وفي 21/ نيسان رفع حالة الطوارئ
المفروضة منذ 48 سنة متواصلة، ولم يكن لهذه الإجراءات أي نتيجة عملية، بل كانت فرصة
لمزيد من القتل والعنف والقسوة ..
يوم
الأحد 31/تموز _ليلة الأول من رمضان_ أطلق الجيش السوري عملياته العسكرية في مدن عديدة
مثل حماة ودير الزور والبوكمال والحراك في درعا، حيث راح ضحيتها أكثر من مئة وخمسين
شهيدًا .. وفي 18/ آب حدث تصعيد غير مسبوق في مواقف الدول الغربية من الاحتجاجات، فبعد
خمسة شهور من الاكتفاء بإدانة القمع والدعوة إلى الإصلاحات أعلنت فرنسا وبريطانيا وألمانيا
والاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة في وقت واحد على الرئيس السوري بشار الأسد
التنحي بعد أن فقد شرعيته بالكامل ..
في
أوائل شهر تموز، وبعد تفاقم حالات الانشقاق في الجيش السوري على مدى ثلاثة شهور، أعلن
عن تشكيل أول تنظيم عسكري وهو لواء الضباط الأحرار تحت قيادة حسين هرموش وتلاه بعد
شهرين تشكيل الجيش السوري الحر بقيادة رياض الأسعد
هذه
لوحة دامية، وعينات حزينة من ممارسات نظام قانم على القمع والاستبداد بالحكم، وتسلط
على شعب مسالم نبيل؛ حيث حكم الأقلية بالأكثرية، ثم حكم عائلة بالأقلية والأكثرية،
ومن هنا تولدت مشكلة طائفية، ظلت مطموسة بالتسامح حينًا وبالخشية من القمع أحيانًا
.. لأن 90% من ضباط الجيش الكبار ينتمون إلى الطائفة العلوية التي لا تشكل أكثر من
10% من الشعب السوري .. ومن المخزي أن هؤلاء هم الذين يصدرون الأوامر بالقتل في كل
المناطق، وبخاصة السنية منها، وهذه السياسة خوفت الطوائف بعضها من بعض، كما خوفتها
على وجه الخصوص من الأكثرية إمعانًا في السيطرة ومحاولة وأد الثورة والقضاء عليها
.. هذا الأمر قمين بأن يجر إلى حرب أهلية واقتتال داخلي ينذر بتبانيات إثنية يمكن أن
تؤدي إلى احتكاكات بين العرب والأكراد ..
من
عادة المستبدين أن يسخروا الاقتصاد الوطني لترسيخ حكمهم، حيث قامت الشراكة الاستغلالية
بين آل الأسد وبعض العائلات الأخرى، وعلى رأسها عائلة مخلوف؛ حيث سيطرت على تجارة الكحول
والسجائر والإسمنت والسيارات والأسواق الحرة والخلوي سيريا تل والعقار راماك والسياحة
والفنادق، كما أخرجت عائدات النفط من موازنة الدولة التي كان الشعب السوري في أمس الحاجة
إليها ..
لقد
ظل النظام السوري يعيش على تحالف مع البورجوازية الخدماتية والعقارية وطبقة التجار
في المدن الكبرى، وما زال هذا التحالف بين الاستبداد الأمني والسياسي ورأس المال التجاري
هو التحالف الذي يحكم سورية بناء على صفقات داخلية، يعاد تشكيلها بعد كل أزمة، هذه
الصفقات همشت الجزء المتحرر سياسيًّا من الطبقة الوسطى ومثقفيها، كما تمثلت مؤخرًا
في ازدياد نفوذ رجال الأعمال الجدد في المدن الكبرى الذين يرفعون راية الحرية الاقتصادية
الجديدة، ويدعمون الاستبداد السياسي ..
لقد تعززت المخاوف الطائفية بالتطور السياسي
في العراق بعد الاحتلال الأمريكي وسيطرة حزب الله والطائفية السياسية في لبنان ومن
ورائهما إيران، وهذا كله أثار الفتن التي يعمل عليها النظام حتى يحكم قبضته على الشعب
والحكم والدولة ومن ثم تسليمها للوريث القادم ..
لقد ضاق الشعب السوري بالمفاهيم التي فرضها
حزب البعث، ولازمت فترته كلها في المجتمع والتربية والتعليم والجيش والمؤسسات المدنية
والحياة السياسية حيث ساد القمع وخنق الحريات وسيطر العسكر ورجال المخابرات، وكانت
هذه من أسوأ الأبعاد السياسية في القضية السورية التي قابلها البعد الإقليمي مما جعلها
معقدة ومختلفة في طبيعتها عن الأوضاع التي أعقبت ثورات بلدان الربيع العربي ..
عاش النظام على مدى سنوات من تناقضات عدائه
الكلامي المعلن لإسرائيل وحماية لحدودها من جهة أخرى، ودعم الجماعات المقاومة لإسرائيل
وأمريكا من جهة أخرى والتعاون أو التقاطع مع سياستهما تحت عناوين شتى، وكذلك إعلانه
محاربة الأرهاب في الداخل وتصديره إلى الخارج .. حيث ولد هذا الأمر ثنائيات مدهشة
.. التحالف مع دولة أصولية كإيران وانتهاجه العلمنة ومكافحة الأصولية .. التحالف مع
غير العرب مع رفع شارات العروبة وأيضًا استضافة فصيل إخواني فلسطيني هو حماس، وإعدام
أي إخواني سوري .. كما نشير هنا إلى دعم المقاومة لتحرير الجنوب اللبناني ومنع هذه
المقاومة من تحرير الأرض السورية في الجولان .. ولعل من أخطر هذه الثنائيات المتناقضة؛
هو التحالف منذ عهد الأسد الأب ثم الابن بين نظام ولاية الفقيه ونظام البعث .. هذه
التحالفات شكلت جسرًا لعبور المشروع الصفوي إلى البحر المتوسط على مركب القضية الفلسطينية،
وهو ما فاقم المذهبية في العالم الإسلامي مما دعم الاستبداد وأشاع دواعيه ..
لقد قلنا في هذه الدراسة إن الثورة السورية
ومن ورائها القضية بكاملها، قضية معقدة مختلفة عن كل ثورات العالم العربي ومشاكله
.. وذلك بسبب ظاهر جلي هي أن القضية هي الوحيدة التي تواجه أربع قوى كبرى دفعة واحدة
.. نظام ولاية الفقيه في إيران .. والسلطة التي يسيطر عليها حزب الله في إيران .. والنظام
الخاضع للسيطرة الإيرانية في العراق .. والنظام السوري نفسه بما لديه من أجهزة وتحالفات
مدعومًا من دول كروسيا والصين وبعض دول أمريكا اللاتينية ..
أمام كل هذه القوى المتضامنة في عداء هذا الشعب
السوري؛ يدعو ممثلو القضية السورية من معارضين وأصدقاء، العالم أجمع التدخل لأن القضية
مدولة أصلاً بالمال والسلاح والقوى المتحالفة مع الأنظمة الاستبدادية .. ومن ثم فلا
مسوغ للتحذير من العسكرة ولا التدخل الأجنبي ولا الحرب الطائفية أو الإقليمية لأن النظام
السوري المجرم جلب إلى سورية كل هذه المحاذير والأخطار المحدقة..
في ختام عام كامل من المواجهة الحامية بين
قوى شعبية ثائرة انتظمت معظم الشعب السوري ونظام مستبد بوليسي عنيف، متمسك بالسلطة
حتى الرمق الأخير .. نرى من واجب هذه الدراسة الضافية أن تضع أمام القارئ المشهد الأخير
في هذه الفترة الزمنية الراهنة، وذلك بالحديث عن معاناة الثورة داخل القطر التي يواجهها
الشعب السوري، ويلحقوا فيها بل من صميم كيانها الجيش السوري الحر .. وكذلك المعارضة
في الخارج وهي واجهة هذه الثورة أمام الرأي العام بما تقدمه من صورة صادقة لهذه الثورة
الباسلة، وما يمكن أن ترفدها به من احتياجات مادية ومعنوية تزداد الحاجة إليها يومًا
بعد يوم ..
الثورة داخل القطر حركة شعبية بدأت باحتجاجات
سلمية وبقيت مستمرة على سلميتها لأكثر من ستة أشهر، وقد تحملت في تلك الفترة من التضحيات
ما جعلها موضع فخر الإنسان في أي مكان .. وكأنها كانت تتمثل قول ابن آدم الأول في الكتاب
الحكيم "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما
أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" ..
فإذا كانت هذه الثورة السلمية قد بدأت في درعا
وعلى يد أطفال صغار كتبوا شعارات أثارت النظام فكان جزاؤهم القتل وإرسالهم إلى أهليهم
جثثًا؛ فإن الثورة أصرت على هذه السلمية، حيت تمددت إلى باقي المحافظات في بانياس من
الساحل وحمص من الوسط وإدلب من الشمال ودير الزور في الشرق .. لكن النظام بقي سادرًا
في غيه، ممعنًا في ظلمه، مصرًّا على أساليبه في القمع والقسوة والملاحقة .. مما أثار
حفيظة من أبناء الشعب في الجيش والأمن، وجعلهم يعصون الأوامر، ويحاولون التمرد بحيث
كانت انشقاقاتهم المتزايدة مع الأيام نواة لقوة عسكرية تحاول أن تقف بوجه هذا الطغيان
الأعمى من النظام، وتقدم نفسها حامية لهذه الثورة الشعبية السلمية الهادرة .. وهي الآن
القوة الرئيسية التي تقوم بهذا الواجب بإمكانيات قليلة، وتسليح فردي متواضع ..
هذه الثورة بصورتها الحالية سائرة في طريق
النصر لا تنثني عن غايتها، ولا تتراجع عن هدفها، وهي تواجه أعتى قوة عسكرية بوليسية
واستخبارية تملكها الدول الحديثة، كما أن هذه القوة مدعومة من قوى إقليمية ودولية فإيران
وحزب الله وجماعة المهدي في العراق حلفاء هذا النظام بدافع عقائدي ومصلحي، وروسيا والصين
بما يحميان هذا النظام من أي قرار دولي يوقع عقوبات معينة أو إجراءات رادعة مؤثرة على
النظام هما سند إضافي إلى جانب العدو الصهيوني الذي يضغط بطريقة غير مباشرة على القوى
العظمى لحماية النظام ومنع أي تصرف دولي ضده ..
هذه صورة الثورة في الراهن من الوقت، وهي قلب
القضية السورية، وبعد سنة من قيامها، أما المعارضة السورية في الخارج فقد كتبنا عنها
سلسلة من المقالات؛ حيث أخذ عليها الجميع تفرقها وعدم وحدتها، ومع إقرارنا بذلك فإننا
نقول إنها كلمة حق يراد به باطل، حيث تحتج بها كثير من الدول الغربية وحتى العربية
من أجل ألا تقدم ما ينبغي عليها من دعم هذه الثورة والوقوف مع حقها الناصع الصريح
..
إن هذه الدول على الرغم مما تراه وتشهده من
مخالفات في حقوق الإنسان ومجازر تقع على الشعب السوري، وتجاوزات لنظام لم يتصرف المغول
والتتار بمثل ما يقوم به من انتهاكات وفظائع وحرب تدميرية يندى لها جبين الإنسانية
خجلاً، وتهتز منها ضمائر البشر خزيًا وعارًا ..
المعارضة الآن تتمثل في أكبر تجمع لها يضم
كثيرًا من تياراتها، وهو المجلس الوطني، ويكاد اليوم أن يأخذ دوره في التمثيل العربي
والدولي، وكل الذين يحاولون الوساطة أو تقريب وجهات النظر للأطراف المتنازعة يتصلون
به، ويطلبون مساعدته .. ولو صدقت نيات هؤلاء جميعًا في رد النظام عن طغيانه، وإنصاف
الشعب السوري وثورته الباسلة لكان لهم في هذا المجلس خير شريك .. ولعلنا نذكر في هذا
الشأن أنه ليس في الدنيا معارضة بهذا الحجم، وعلى الحال التي عليها المعارضة السورية
يمكن أن تكون إلا موحدة وعلى كلمة متفقة بلا أي اعتراض ..
لكننا اليوم إزاء انقسام دولي يعيد إلى الأذهان
فترة الحرب الباردة التي تجاوزها المجتمع الدولي بانهيار الاتحاد السوفيتي في العقد
الأخير من القرن الماضي ..
فتحالف إيران مع النظام السوري يخيف دول الخليج
والسعودية كما أن تحالف روسيا وموقف الصين معها يخيف الغرب الذي يتأثر بإسرائيل، ويضع
مصالحها في مقدمة اهتماماته، وعلى رأس أفضلياته .. وإسرائيل كما ألمحنا سابقًا لا تجد
بديلاً يعوضها عن النظام السوري حفاظًا على أمنها، وحماية لحدودها، ومراعاة لمصالحها
..
إن عطالة الموقف الدولي في مجلس الأمن كلف
الثورة السورية آلاف القتلى، وعشرات آلاف المعذبين، وأضعاف أضعافهم من المهجرين، وكان
من شأن قرار دولي حازم أن يوقف مثل هذا النزف المادي والبشري والمعنوي لثورة الشعب
السوري، ولكن المصالح الدولية ليس لها قلب، ولا تتحرك بالمشاعر، ولا تستجيب للنداءات
الإنسانية ..
يبقى أن نقول إن العون الإلهي الذي ثبت هذا
الشعب السوري العظيم هذا العام بطوله وتمامه، وبمعاناته وتضحياته هو الكفيل أن يدفعه
في طريق النصر والتحرير .. وعون الله سبحانه مع الشعوب الصابرة الصادقة، وليس مع الظلمة
الطغاة، ولا المتجبرين القساة، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ...
المصادر :
1_ مقالات الكاتب عن الثورة السورية على مدى
سنة كاملة .
2_ تقرير المجلس الوطني السوري الخاص بأداء
المراقبين العرب في سورية 2012م .
3_ تقرير عن القضية السورية مادة تحتاج لإسهامكم
.
4_ تقرير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
معهد الدوحة واقع المعارضة السورية والتحديات الراهنة والمستقبلية
وله أيضًا الخاص والعام في الانتفاضة الشعبية
السورية الراهنة.
22/ربيع ثاني/1433هـ
15/3/2012م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق