صديقي أبو عبدو الحلبي يتصل يوميا بابنتيه في حلب
حيث يحتدم الصراع. يقول يوميا اتصل مثنى وثلاث ورباع أحيانا (تزبط) وكثيرا ماتنقطع
بنا الاتصالات. إنه ينوي إحضار ابنتيه وأحفاده من الانفيرنو (الجحيم Inferno)
من حلب. قلت له إنهم في الميدان كيف يعيشون؟ تقول زوجته الجالسة بجنبه إن الحياة
صعبة جدا. إنها حالة حرب طاحنة ويتنقلون من منطقة لأخرى طلبا للنجاة.
أبو عبدو يتمنى انتصارا سريعا للثورة السورية ولكنه
يقلب كفيه ولا يعرف إلى أين تتجه الأمور؟
التفت إلي يستأنس برأيي كيف ترى الأمور؟
قلت له ينقل عن (ايمانويل كانط Immanuel
Kant) الفيلسوف الألماني ـ هنا استوقفني لم يسمع
بالاسم بعد! ـ قلت له إنه من فلاسفة التنوير في ألمانيا عاصر الثورة الفرنسية،
وحين كانت تنقل له الفظاعات من فرنسا حيث محيت طبقة الارستقراطية على حافة المقصلة
ـ كما نسمعها نحن عن سوريا، كان يعلق
(كانط) بقوله: كل الفظاعات لا تعدل استبداد يوم واحد.
حين يستعرض الكواكبي الحلبي في كتابه (طبائع
الاستبداد ومصارع الاستعباد ) لا يترك مذمة ورذيلة إلا ويلحقها بها.
أنا اختصر الوضع السوري أحيانا بكلمات كما جرى معي
مع سيدة مغربية في أغادير قالت كيف تصف الوضع؟
قلت تختصر سوريا بثلاث كلمات: أسد وغابة وعصابة!
تعجبت واحتارت في الجواب.
كان شعوري حين أدخل مدينة درعا الحدودية أن قلبي
غاض وغاص وذلك حين خُيل إلي أن بإمكاني دخول وطني. كان ذلك بعد غيبة 17 سنة.
انتابني شعور عجيب وأنا أواجه مركبا من الذلة
والقلة والفساد والوسخ والفوضى وحيث تلفتت تستنشق جزيئات أمن. أمن .. أمن.. بدون
أي أمن. دولة بوليسية من الطراز الأول. يجب أن نعترف للأسد الأب بالعبقرية فقد
أدخل في روع المواطن يقينا لا ريب فيه أن جهنم موجودة!! لقد حققها الملعون على
الأرض!! أما الجنة فمردها إلى الله فمنهم شقي وسعيد.
صديقي الشاب المفكر علوان ذهب مرة وقال لم أر مثل
هذا الخوف في حياتي إنه بلد لا يزار.
في خان أرنبة وهي مدينة (فسفوسة) تعيسة في الجولان
راجعت فيها مستوصفا قميئا استطعت أن أعد صورا هائلة ملونة مكلفة كانت 17 قطعة فنية
للآب والابن والروح القدس.
على المواطن الذليل القليل المنكمش حين يدخل
الحدود، أن يضع عقله على اليمين، وكرامته عن الشمال، وينحني تسعين درجة ذليلا
هامدا محصي الأنفاس.
إنهم جن نبي أبو سلمان يحصون طنين كل نحلة ودبيب كل
نملة ولا تأخذهم سنة ولا نوم. الَسَنة والنوم تعني انتزاع أرواحهم وروح سيدهم
معهم.
لا شيء يعمل في البلد! أما جهاز المخابرات الجهنمي فيسبق دقة ناسا
لأبحاث الفضاء وتكنولوجيا النانو.
أعترف أنا بعد دخولي الثاني أنني غسلت يدي إلى
المرافق سبعا واحدة بالتراب والثانية بالكيروسين، من هذا البلد الذي لم يعد بلدا،
بل سجنا كبيرا يحتجز مسكينا ويتيما وأسيرا، وودعته مقلدا أبو الأنبياء إبراهيم مع
النمرود فقال إني مهاجر إلى ربي.
قال لي أنس اللبابيدي صاحب المكتبة وهو على بعد
خطوات من معتقل الحلبوني الذي دخلته أنا معتقلا 250 يوما قال لا نعرف ماذا سيحل
بنا بعد موت الجبار؟
أخيرا مات الجبار الأسد الكبير بأنياب ومخالب وزأرة
تبعث القشعريرة. مات بعد أن حول سوريا إلى سجن ومقبرة. وأورثها إلى نصف مراهق نصف
مجنون.
وضعها ـ المدفون في ضريح يذكر بجنكيزخان وستالين
وفرانكو ـ في براد التجميد نصف قرن؛ فماتت
كل المفاصل السياسية، ومنه سر اختلاف المعارضة، لأنه لم تكن ثمة معارضة ومعارضون.
نحن الجيل الذي ذاق الحرية أيام ماعرفت بفترة
الانفصال مابين الوحدة وانقلاب 8 آذار.
كانت أياما جميلة من تعددية حزبية، وصحافة حرة،
ومظاهرات استنكار فعلية، ونقاشات حرة ساخنة، بين كل التيارات، ثم دخلنا بطن الحوت!
فهل سنخرج كما خرج نبي الله يونس حرا حيا؟
قلت لصديقي أبو عبدو يقول الرب اصبروا وصابروا
ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون. هز رأسه بدون جواب!
يذكر الرب جدارا هائلا صاعدا أمام عتبة الجنة:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين من
قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر
الله ألا إن نصر الله قريب.
وفي مكان ثاني حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد
كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين.
أنا اعتبر أن الثورة الفعلية هي في بلاد الشام؛ فقد
كانت ثورات تونس ومصر نزهة أمام ما يحدث في بلاد الشام.
إنها ضربة الميلينيوم (تحدث مرة كل ألف عام).
مع هذا فالحرية كلفتها غالية، ولكن الوصول إلى
شاطئها ينسي كل تعبها. أنها تستحق كل هذا العناء.
نحن في الجراحة بعد عملية صعبة ننسى العرق والجهد
والتعب حين تنجح العملية ونجاة المريض وشفاؤه وقيامه بالعافية.
كذلك يحدث للمرأة حين تولد وترى وليدها بالسلامة.
أنه ما نتفاءل به للشعب السوري بعد طول نصب وعذاب.
أعتقد أنه مهما كانت التضحية فالحرية أغلى وأثمن.
حسب كولن ولسن في كتابه اللا منتمي أن رجلا شقيا
عوقب بالسير خمسة ملايين كيلو متر، ثم سمح له بدخول الجنة. فلما رأى تلك الكرامة
ردد فقال: أنا مستعد أن أعيد العذاب أضعافا مقابل أن أصل لهذه الكرامة.
جاء في كتاب العبودية لأتيين دي لابواسييه وهو كتاب
كتبه شاب في 28 من العمر قبل خمسة قرون عام 1562م ولم ير النور في فرنسا إلا بعد
180 سنة وعندنا بعد أكثر من 400 عاما (نشرناه في كتاب مستقل بعنوان فقد المناعة ضد
الاستبداد)
جاء في الكتاب أن أثينا أرسلت رسولين إلى فارس
للتعويض. كانت فارس في غزوها لبلاد الإغريق قد أرسلت رسولين يقولان لأهل أثينا
أعطونا الماء والتراب. كناية عن الاستسلام الكامل!
نظر أهل أثينا في بعضهم ولم يصدقوا مثل هذه
الوقاحة؛ فقتلوا السفيرين.
ندمت أثينا بعد انتصارها على الجيوش الفارسية
الضخمة برا وبحرا في معركة سلاميس فأرسلت اثنين من المتطوعين يفعل بهم عاهل فارس
ما يشاء.
انطلق الرجلان حتى وصلا منطقة الحدود فأكرمهما
العامل هناك ثم التفت إليهما في حفلة عشاء فاخرة وقال هل لكما أن تصبحا عبيد سيدي؟
التفت رجال أثينا وضحكا وقالا يبدو أن صاحبنا ومن
معهم من عبيد فارس لا يعرفون الحرية بعد!
قالا للحاكم يا صديقنا إننا نشكرك على المائدة
العامرة ولكن يبدو عليكم معشر الفرس أنكم لم تذوقوا الحرية بعد، ولو ذقتموها مرة
وعرفتم طعمها قاتلتم عنها بأنيابكم وأظافركم والكوع والبوع ولكنكم لم تذوقوها بعد.
الشعب السوري ذاق الحرية وفي قناعتي أنه وبعد أن
يتحرر سوف ينسى كل التعب، ويبني الجمهورية الفعلية المحررة من الطغيان، وأن كل ثمن
للوصول إلى شاطيء الحرية يعدل خروج بني إسرائيل من نير فرعون إلى الأرض المقدسة
التي كتب الله لهم أرض الحرية للأحرار.
سوريا الآن في طريقها إلى الحرية
والسلام والعدل والاستقلال الفعلي.
يوم تدعى كل أمة إلى كتابها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق