عصر ذلك اليوم الرمضاني مستلقياً
على فراشه بعد عودته من عمله مترنحاً تحت وطأة مرضه منتظراً أذان المغرب بكل ما
أوتي من الصبر فهو رغم كلّ ما به فهو ما زال يعمل و يصوم!
خرج إلينا في شرفة المنزل حيث أنا
و أخي الصغير و قد جعلنا من كل شيء حطاماً ومن كل صوت صراخا, أطفالاً ما همّنا سوى
أن نلعب حتى نستنفذ طاقاتنا كاملةَ لنستجمعها من جديد لنلعب من جديد.
كنت حينها الأقرب إليه فصرخ به و
نهرني ضربة لم تكن موجعة رغم شدتها , و لكنها كانت كافية لتوثيقها في سجل حياتي
بأنّها المرة الوحيدة في حياتنا و أخي الأصغر و التي يُقدِم بها أبي على فعل ذلك.
خمسون سنة هي تلك المسافة التي
تفصل بيني و بين والدي و التي كانت تزداد باضطراد مع كل يوم أضيفه إلى حياتي كان
والدي يضيف يومين, يعطيني أحدهما!
هي مسافة زمنية كبيرة لم تسمح لنا
دائما بتبادل الاحاديث و التي كانت عندما تتمّ تقتصر بغالبها على أن نستمع إليه في
أحاديثه و مداخلاته مع كل نشرة أخبار تُعقد في الثامنة و النصف مساءً بتوقيت سوريا
المحتلة آنذاك.
الله كان و ما زال كريما معي
بعطاياه فمنّ عليَّ و أنا في الثانية و الثلاثين من عمري ان أكون رفيق والدي في
غرفة مشتركة لستة أشخاص رفقة حجٍّ لبيت الله العتيق, فكانت أربعة و عشرين يوماً في
تلك الرحلة تُعادل حياة كاملة لي مع والدي.
هل تذكر يا أبي أولى اللحظات التي
كحّلت رؤية الكعبة ناظرينا و جعلت منهما نبع دموع صافية لون السماء.
أريد أن أقول لك بأنني ما زلت
أفتقدك في كلّ لحظة منذ تلك اللحظة التي هاتفتني بها أختي لتخبرني أنك أصبحت في
السماء, في ذلك اليوم خرجت من غرفتي والتقيت ببعض من أصدقائي و لم أخبرهم بأنّك
رحلت, لا أعرف لماذا فعلت هكذا, ربّما بسبب خوفي من أنّ يقوم بعضهم بإظهار عاطفة
أكثر مما ينبغي عليه أن يقوم به فأصبح حينها مهدئاً لروعه و معزيا إياه بفقده.
ربما لذلك و ربما لأنني أردت
تخليد تلك الساعات الأولى متأملاً السماء تستقبلك برحمة من الله و مغفرة, حتى غدا
الأمر بعد ذلك بأنّ صورة وجهك هي التي ترسم السماء كلّما تأملتها و قد كانت قبلاً
تعجّ بملايين الصور.
كانت أولى خطواتي على أرض المطار
في طريقي إلى حيث ترقد بسلام ثقيلة موغلة في الأرض, خليطٌ من الوحشة و الحزن و
ربّما الخوف فهي كانت أولى الخطوات على
أرض وطني أمشيها و قد واراك الثرى فالفقد اليوم عظيم يا أبتي.
لم يكن لتلك الخطوات مثيل إلّا
تلك التي خطوتها في المقبرة و أنا حينها أتقدم أكثر رغم أنّ كلّي يعيدني إلى
الوراء إلى أخر لحظة تكلمنا فيها إلى أخر قبلة وضعتها على يدك المليئة بتجاعيد
حياتنا.
أيام قليلة يا أبي و ستكتمل السنة
الرابعة لتلك اللحظة, إلا أنها سنة مختلفة عن كلّ ما سبقها, فأنا أحمل إليك أخبار لا
أدري إن كنت أولّ من يحملها إليك و قد ترجّل عن الأرض أكثر من سبعة و عشرين ألف
شهيد في ثورة الحرية و الكرامة.
هل أخبروك بأنّ شعب سوريا انتفض
مواجهة عصابة الأسد!
أعلم جيداً بأنه أمرٌ لطالما
انتظرته حين كنت تحدثني عن أيام الفخر و الكبرياء لسوريا خمسينيات القرن الماضي, و
الشعب السوري يا أبي اليوم قد أصبحت بطولاته حديث العالم و تضحياته جعلتنا نشعر
بضآلة كل التضحيات التي كنا نقرأها في كتب التاريخ, فالتاريخ اليوم يا أبي يُكتب
من جديد بدماء شباب هم من صفوة الشباب و بدماء أطفال يذبحون على مرأى و مسمع
العالم و التي كنّا نظنّ مخطئين بأنّ سبب مجزرة حماه في الثمانينات من القرن
الماضي هو عدم معرفة العالم بها إلا بعد حدوثها.
اليوم يا أبي يرتكب بشار الأسد
المجازر و نحن من يقوم بحفر المقابر الجماعية للشهداء فيأتي حينها وفد من
المراقبين الأممين ليقوموا بالتقاط صور المقبرة ,و مع ذلك فقد اتّخذ الشعب السوري
خياره بأنّه ما من رجوع اليوم عن نصر الثورة السورية ثورة الحرية.
هل تذكر يا أبي كيف كنت تستشيط غضباً
و تبصق مِلء فاك كلّما ظهرت صورة حافظ الأسد أو ابنه بشار في نشرة الأخبار, و كيف
كنت تصبُّ لعناتك عليهم , ما يجعل قلب أمي يخفق بشدّة و هي تطلب منك أن تخفض صوتك ,فالجدران لها آذان للرقيب.
في هذه الأيام أصبحت الأم أول من
تخرج لتلعن روح حافظ الأسد و ابنه على الملأ, اليوم أصبح لعنهما هتافاً يصل إلى
القصر الجمهوري و لم تعد للجدران آذان فالمدفعية و الدبابات التي أرسلها بشار
الأسد لقتلنا هدمت كل الجدران و الأبنية و لم يبق حجر على حجر, فظنّ أنه بذلك
انتصر و ما علِمَ بأنّ جدران خوفنا و سجننا قد هدمناها منذ أول لحظة خرج بها
أطفالٌ من درعا لإسقاط النظام!
نعم يا أبي, أطفال من درعا خرجوا
و هتفوا و أعلنوا بدء إسقاط النظام فطاف هتافهم أذان حرية في سماء سوريا, كآذان سيدنا
إبراهيم عليه السلام للحج!
أودّ أن أعتذر لك عن ذلك اليوم
الذي تناقشنا بحدّة حينما كنا نتابع مسرحية كاسك يا وطن!
كنت تشتم دريد لحّام (غوار
الطوشة) و تصفه بالمنافق و القوّاد لنشعر حينها نحن بالغضب من وصفك إياه بذلك
متذرعين بأنه فنان يشعر بالشعب و يحمل قضاياه حملاً ثقيلاً على كتفيه!
لقد كان يا أبي كمثل ما وصفته أنت,و
شابهه في نفاقه الكثير من أمثاله, فالثورة اليوم يا أبي فضحت و أزلت الأقنعة عن
الوجوه فالشيخ البوطي الذي كنا نستمع لدروسه مساء الأربعاء أحرق جميع كتبه و
مخطوطاته فداءَ لحذاء الأسد!
و الجيش يا أبي ,نعم ذلك الجيش
العربي السوري الذي بذلنا كل ما نملك من غالٍ و نفيسٍ لبنائه, فاليوم تم تسليطه
علينا بكل ما أوتي من قوة بمدفعيته و دباباته و طيرانه الحربي.
إلا أنّه يا أبي ثمّة رجال انشقوا
عن ذلك الجيش الخائن و أصبح لدينا الجيش الوطني الحر بشباب تعانق همهم هامات
السماء و لا سقف لحريتهم سواها, هم الأن مرابطين على الثغور يدافعون عن أطفال
سوريا و شيبها و شبابها, و يذودون عن أحلامنا بأرواحهم يبذلونها رخيصة سبيل الله و
سبيل كلّ شيء أقره الله لنا من الحرية و الكرامة و الوطن و حتى الحلم!
أبي, لا أعلم هل أرسل لك سلامي مع
قوافل الشهداء التي ترتقي يومياً إلى السماء , أم أنتظر قليلاً عسى الله أن يلهمني
تلك القوة التي أذهب فيها إلى سوريا جوار المرابطين هناك فعسى الله أن يكتبني
شهيداً و حينها سألقاك بابتسامة على مُحيّاك و أنت تستقبلني!
رحمك الله يا أبي رحمك الله
,,اشتقت إليك
31 أب 2012م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق