سؤال يتجدد بين
من يتبنون الحداثة والتجديد والمواكبة والعصرنة مع المحافظة على الأصالة، ومن يتبنون
ما درجوا عليه ويعتبرونه أصالة، سؤال يتردد اليوم على ألسنة المحتجين على كل ماهـو
عصري وجديد وتخصصي ممن كان لهم دور سابق في العمل في الصفوف المتقدمة الأولى … ولن
نتهم السائلين، ولن نبحث أو ندقق أو نمحص في نياتهم وقصدهم، ولا عمَا بين سطور
وثنايا حروفهم وكلماتهم.
ونقول لهم ابتداء:
لقد أنعم الله علينا بالرسالة الخاتم، التي تصلح لكل زمان ومكان، ومعنى الصلاحية
هنا تعـني الاستمرارية والمواكبة والتجدد… ألم يقل سيدنا علي كرم الله وجهه: لا تجبروا
أبناءكم على عقولكم، فإنهم خلقوا لزمن غير زمنكم. ألم يعـب الكثير منا، في وقتنا
الحالي، تعـلق جيل أبنائنا بالحاسوب والبرامجيات المتعلقة به، وأنهم جيل بلاستيك
…. وأدهشونا، لا بل أدهشوا العالم بإبداعاتهم في ربيع الثورات العربي؟؟؟. يعيبون
علينا التخصص في بناء منظمات وروابط المجتمع المدني لفئات الأطباء والمهندسين
والأكاديميين والحقوقيين والطلبة والشباب والإغاثة وحقوق الإنسان، ويقولون لقد
جزأتم وفتتتم المؤسسة الأم…
فما الذي
أبقيتموه لنا منها؟؟؟ سؤال يطرحه الكبار والكبار فقط، الذين استلموا دفة قيادة
المؤسسة الأم منذ خروجها لأرض الهجرة والتهجير القسري– والتي فرخت اليوم أكثر من
ستين منظمة من منظمات المجتمع المدني لحد الآن، والحبل على الجرار - وكأن كل منظمة
أو رابطة من تلك الروابط، هي عضلة مستقلة عن جسم المؤسسة، وتدور في فلك خاص بها
تاركة فلك المؤسسة الأم، فهل تستطيع العضلة ولو كانت نسيجا معقدا العيش بمفردها؟؟
كان الطبيب والمهندس في الماضي يتخرجان من كليتهما ويحملان تخصصا عاما ككل أقرانهما
من الخريجين، ففي الزراعة مثلا كان يتخرج مهندسا زراعيا عاما لجميع الأقسام والفروع
في حين أصبح للتخصص ذاته عشرة أقسام وتحت الأقسام فروع، وعلى ذلك فلنقس لجميع
التخصصات العلمية والإنسانية … إنه التخصص والتخصص الدقيق في أبهى صوره وأعلى
مقاماته، نعم إننا في زمن الكشف المبكر عن أول خلية سرطانية، في جسم الإنسان، من
خلال تقنية الليزر, وفي زمن التخاطب مع الملايين من خلال حاسوب واحد.
ونحن نقول لهؤلاء
هوينكم … إن ظهور هذه الروابط والمنظمات
المتخصصة ظاهرة صحية، لا بل هي ظاهرة طبيعية نتيجة انسداد أفق وعقول معظم من أدار
المؤسسة منذ خروجها إلى وقتنا الحالي، وقناعتهم التامة بأنهم هم وهم وحدهم الراعي
الحقيقي لها، وأن من أخرجها من موطنها ورفعها فوق المئذنة، هو الوحيد القادر على
إنزالها وإعادتها إلى حيث خرجت، وكم تخطف الموت منهم وهو الواعظ الأكبر, كما يظهرون
بمظهر المدافع والمنافح والمكافح عنها ولا يجوز لغيرهم القيام بهذه المهمة إلا هم،
طالما أنها تحت سيطرتهم، ونسوا أول سنة من سنن الله في المجتمعات البشرية، ألا وهي
التدافع وما أدراك ما التدافع ؟؟؟ إنه عملية إدخال دماء جديدة وهواء جديد في بحر
لجي متلاطم الأمواج وليس في قلة أو قلتين من بركة ماء ضحلة. إن هؤلاء تدوالوا
السلطة على المؤسسة منذ ثلاثة عقود ويزيد ولم يخرجوها عن قبضتهم، مع علمهم بأن
الرسالة التي يحملونها عالمية، وأمضوا وقتهم يخضون الماء وهو ماء، ولا زبدة، قوالب
جاهزة تتبدل وطرابيش تتغير، ولا تقدم ولا دوران لعجلة التطور لا من حيث البناء و
لا التصور, ما المانع في أن تعاد هيكلة المؤسسة الأم بكل توصيفاتها وتصنيفاتها على
أساس التخصص ؟؟؟ ما المانع أن يجتمع المهندسون في منظمة معينة وفي منطقة معينة
يتحاورون ويتناقشون جميع المستجدات في صلب تخصصهم ويعرضون على شاشة واحدة كل ما
توصل إليه علمهم وفنهم ومشاريعهم، ويتناصحون فيما بينهم ويقدمون الدعم والإسناد
لبعضهم بعضا؟؟؟ ألم ينجح أجدادنا في مهنهم وتخصصاتهم عندما عينوا لأنفسهم مجلسا لكبار
أعضائهم ووضعوا على رأسه شيخ الكار؟؟؟ هل يدير مجلس القضاة مروض خيول أو مربي حمام
؟؟؟ أم يرأسه قاضي قضاة؟؟؟
ما المانع أن
نعترف بأخطائنا كمؤسسة جماهيرية باعتمادنا في بناء كوادر مؤسستنا على المثقفين
والمثقفين فقط -أطباء ومهندسين- وأهملنا شرائح العمال والفلاحين والتجار
والصناعيين والحرفيين وصغار الكسبة وضباط الأمن والجيش، وهم ماهم عليه من نسبة
وتناسب في المجتمع، أم جاء جميع أولئك من مجتمع فضائي ؟؟؟ وهل يستقيم أمر وقوام
مجتمع ويشتد عوده ويقوى إلا بتضافر جهود أبنائه على امتداد أعمالهم وفنونهم
وتخصصاتهم ؟؟؟ ألم يجعل الله الناس بعضهم لبعض سخريا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، أم
سنخترع مجتمعا جديدا وننطلق في واقع غير واقعنا ومجتمع غير مجتمعنا ؟؟؟ عندما يفيض
ويزيد تخصص على تخصص ويطغى تخصص على آخر، أو يبقى حكرا على منطقة دون منطقة أو جهة
دون جهة، فكأننا أمام رجل يسرف في الماء
في بيئة محدودة الموارد المائية، وهو بالتالي يحكم على نسله وأحفاده من بعده
بالموت, وهذا ماجناه على المؤسسة الذين أمسكوا بزمامها ومقدراتها طيلة تلك العقود
.
إن الذين يذرفون
دموع التماسيح على هذه المؤسسة، ويظهرون خوفا أو تخوفا غير منقطع النظير عليها،
ويتباكون على مصيرها، ويزعمون تفككها وتشرذمها وتمزقها، ويقولون ما الذي أبقيتموه
لنا منها؟؟؟ إنما يريدون لأبنائها أن يعيشوا كأسماك زينة بألوانها البراقة وحركاتها
اللطيفة الهادئة، في حوض لتربية الأسماك، يمدونه بالهواء والضوء والغذاء ويجددون
له الماء كيف ومتى أرادوا, ولا يريدون لأبنائهم أن يكونوا أسماكا أو حيتانا ضخمة
تقاوم تيارات النهر والبحر، وترهب كل من يقترب منها، أو يريد الاعتداء عليها،
ونسوا أو تناسوا دور العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهي أولى شعاراتهم التي نشأوا
ودرجوا عليها، وأن الأصل في الأشياء الكفاءة والخبرة في كل ميدان، وعلى هذا الأساس
أمَــر الرسول القائد صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنه، على جيش
المسلمين وفيهم ما فيهم من كبار كبار الصحابة والمقربين منه.
لا يحسبن أولئك
الذين يتصدرون موقع القرار في المؤسسة أنهم بانقسامهم تارة وتحالفهم تارة وقبولهم
لبعضهم على مضض تارة أخرى نظرا للواقع الذي فرضته ظروف الثورة المباركة، أنهم بمفازة
من أمر الله بالتدافع والتغيير، فالقضية تيار يجرف من يتصدى له، وتجرف بصورة خاصة من
وهن عوده وضعف ساعده وتجمد الدم في عروقه، ولن يجد له أنيسا أو ونيسا أو جليسا،
وسيقرع سنه ندما على مافرط في وقته وجهده وقدراته ومكتسباته، ولات ساعة مندم، ولن
نعمم الأمر على الجميع، فهذا مقتل كبير وغير موضوعي ونحن نضع الأمور في نصابها.
إن شباب وبنات
وكهول منظمات المجتمع المدني السورية ستعود إلى أرض الوطن الحبيب – بإذن الله - بوجه
عصري مشرق ومشوق ومشرف، تنفعل مع واقع الوطن وهمومه وتطلعاته نحو غد مشرق، وتتفاعل
فيما بينها بخطوات واثقة يستشرفون المستقبل ويخططون له ويستفيدون من وقتهم ومكتسباتهم
ومقدراتهم، وسيقودها أفراد متخصصون يقدمون برامجهم ونسب إنجازهم ومراحلها وفق جدول
زمني مرسوم ومحدد, وستنمو مؤسستهم الأم أضعاف أضعاف ماكانت عليه، لأنها ربانية
المنطلق والتصور والوجهة، ولن يتعامل هؤلاء مع مستجدات حياتهم وما يطرأ عليها بردود
أفعال، إنهم سينطلقون إلى فضاء رحب يتسع لهم ولغيرهم يثبت فيه ماينفع الناس كل
الناس ويذهب الزبد أدراج الرياح، ويظهر فيه المبدعون والمخلصون والمتخصصون، ولن
تكون هناك صرة عرب، أو بوسة شوارب كما يقولون، فعند جرن الحمام تعرف القرعاء من أم
الشعر.
كم هو جميل أن
يعرف الإنسان قدر نفسه، والأجمل منه أن يعرف كيف يتعامل مع واقعه ويضع الأمور في
نصابها، وهذا أمر لا يكشف معدنه وبريقه وقيمته إلا أصحاب الإختصاص، ومن كان لايعلم
شيئا في هذا المضمار فليسأل الذين
يستنبطونه منه, وفوق كل ذي علم عليم.
د.
محمد وليد حياني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق