الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2012-03-31

قصة قصيرة (حكايـة جـدِّي) - بقلم: د.أحمد محمد كنعان

كان جدي قد تجاوز السبعين من عمره ، وكنت ما أزال صبياً أدرج إلى سن الشباب وأستعجل الأيام شوقاً لليوم الذي أستقل فيه بحياتي الخاصة عن جدي الذي ظل يفرض علي وصايته بعد موت أبي .. وكان جدي من جيل قديم أعطى الحياة كل ما لديه ومالت شمسه إلى الأفول، وكنت من جيل جديد يلتهب حماسة ويحلق بخياله في دنيا لا حدود لها من الطموح والأحلام والآمال العريضة !

وبطبيعة الحال لم أكن لأنسجم مع جيل جدي الذي أفرغ كل ما في جعبته ولبث ينتظر اللحظة الأخيرة ليودع الحياة ، ولم يعد له من هم سوى توزيع المواعظ ورواية الحكايات التي تصور عظمة إنجازاته وكفاحه المر في الأيام الغابرة ، وكنت من خلال ذلك أتظاهر بالإصغاء له إرضاء لشيخوخته ، بينما كانت نفسي المتطلعة إلى كل جديد ترفض مقولاته جملة وتفصيلاً لأنها باتت تمثل فكر جيل تحجر وأمسى رمزاً للماضي بكل ما يمثله الماضي من جمود وتخلف !

حدث ذلك في الأربعينات من القرن العشرين ، أيام بدأت عقولنا الشابة تتفتح على النظريات والفلسفات الجديدة التي أخذت تقرع سمع العالم بقوة ، بدءاً من ( نسبية ) العالم الفيزيائي "آينشتاين" التي حطمت فكرة المطلق ، مروراً بنظرية التطور والنشوء والارتقاء لعالم الطبيعة "داروين" التي أرادت إعادة الإنسان إلى مكانه الطبيعي في قافلة المخلوقات الأخرى شأنه في ذلك شأن السمكة والضفدع والقرد ، وانتهاء بمدرسة التحليل النفسي التي ابتدعها عالم النفس "فرويد" وأصبحت تنظر للإنسان نظرة تجنح إلى الواقعية وتنأى عن المثاليات !

ولم يكن غريباً والحالة هذه أن أستمع إلى حديث جدي فلا يؤثر في نفسي أو عقلي شيئاً ، بل كنت في كثير من الأحيان أحس بالنفور كلما استمعت إليه يعيد على مسامعي أسطوانته العتيقة عن أيام زمان ، وأخلاق زمان ، وأمجاد زمان ، وهو بالطبع يقصد أيامه هو، وأمجاده هو ، لكنني كنت في الوقت نفسه حريصاً على إخفاء مشاعري عن جدي لما له من مكانة خاصة في نفسي ، فقد رباني بعد موت أبي ، وحنا علي ، وأعطاني من وقته وجهده وماله الكثير مما لا أستطيع إنكاره ، غير أني لم أستطع البقاء على هذه الحال محايداً حتى النهاية ، وبخاصة حين بدأ جدي يتصدى لي ببساطته المعهودة ليفند الآراء العلمية التي أطرحها!

وهكذا بدأت علاقتي بجدي تتوتر يوماً بعد يوم حتى أسفرت أخيراً عن حقيقة الصراع بين جيلينا ، وبلغت الأزمة ذروتها عندما بدأت دراستي الجامعية ، وبدأت أكتسب المزيد من الثقة بما أحمله من أفكار جديدة , فبدأت أواجه جدي بصراحة لا مجاملة فيها ولا مهادنة ، فقابلني في البداية بشيء من سعة الصدر ظناً منه أن ما أعانيه ليس أكثر من أعراض مراهقة مؤقتة لن تلبث أن تزول عني بعد أن أنضج واكتسب المزيد من الخبرة في الحياة !

غير أن الأيام أثبتت أن جدي أخطأ خطأ فادحاً في تقديره ، فقد ظلت تلك الأعراض تترسخ في نفسي أكثر فأكثر يوماً بعد يوم ، وازددت تمسكاً بما أومن به من أفكار حتى تحولت مواقفي إلى ما يشبه الخصام السافر في مواجهة جدي ، وهذا ما جعل جدي يتحول من العطف عليَّ إلى الاستنكار , فقد عزَّ عليه أن يرى الطفل الذي ترعرع في أحضانه يجادله ويعارض آراءه التي باتت عنده بديهيات مسلمة لا تقبل المجادلة ، وربما حدث جدي نفسه مراراً أن القيامة أوشكت أن تقع وإلا فما معنى هذا العقوق الذي يصدر عن هذا الطفل الذي كان إلى عهد قريب يكن لجده كل الود والاحترام !

وهكذا ظل الصدام بين جيلينا يشتد ويعنف يوماً بعد يوم ، ولم يستطع جدي أن يخرج من قوقعة زمانه ، ولم أستطع أنا أن أحل المعادلة الصعبة لكي أحيد الصراع بيننا ، ولولا أن القدر تدخل في الوقت المناسب ووضع حلاً للصراع حين اختار جدي إلى جوار ربه لوقعت بيننا أحداث جسام لا يدري غير الله إلام تنتهي !

   غير أني اليوم ـ وبعد سنين طويلة من ذلك التاريخ البعيد ـ أجدني أقف في مواجهة أبنائي كما وقف جدي في مواجهتي ، فقد فاجأني ولدي الأوسط قبل أيام , وكنا نتحدث عن علاقة الفرد بأسرته فقال :

-  أنتم الكبار تنظرون إلينا نظرة استخفاف ، وتظنون أننا لم نكتسب بعد الخبرة الكافية في أمور الحياة !
هكذا راح التاريخ يعيد نفسه ، دورة أخرى تتكرر من عمر الزمان ، الصراع بين الأجيال يتجدد وربما بصورة أكثر سفوراً وصراحة ، كل الذي حصل أننا تبادلنا الأدوار ، أنا أمسيت في موقع جدي وولدي أصبح في موقعي يوم كنت شاباً غراً ، أنا في موقع ( القديم ) وولدي في موقع ( الجديد ) ، فهل تراني أفلح هذه المرة في حل المعادلة الصعبة التي أخفقت في الماضي أن أحلها وبخاصة أنني عشت نفس الحالة التي يعيشها اليوم ولدي ؟ وهل أستطيع في نهاية المطاف أن أجمع أقاحي القديم وياسمين الحاضر في مزهرية واحدة ؟

    نظرت إلى ولدي وكتمت في نفسي مواجعي ، وهززت رأسي أن هذا بالضبط ما هو حاصل فابتسم ولدي ابتسامة واثقة وعاد يقول :
-  ولكن ، لا تنس يا أبي أن ما يتاح لجيلنا اليوم لم يتح لجيلكم بالأمس ( واستدرك فقال ) ولا حتى جزء يسير منه !
قلت :
-     هذه هي سنة الحياة ..
قال :
-  عندنا اليوم ينابيع لا تنضب للعلم والثقافة ، التلفزيون ، الكومبيوتر ، وسائل الاتصال الآني التي تصلك بالعالم كله في لمح البصر ، ووسائل النقل التي تنقلك إلى أقاصي الأرض في ساعات معدودات ..
قلت :
-  هذه نعمة عظيمة عليكم أن تحسنوا الشكر عليها ، ولكنها مع ذلك لن تغنيكم عن خبرة الكبار !
قال بنبرة حاسمة :
-     القضية قضية ثقافة أولاً وأخيراً ، جيلنا اليوم أكثر ثقافة من جيلكم !
قلت :
-  الثقافة ليست مجرد تكديس للمعلومات ، الثقافة أعمق وأكثر تعقيداً من هذا ، الثقافة يا ولدي تجربة ، معايشة ، الثقافة باختصار شديد .. حياة .
قال كأنما ليرضيني :
-  صحيح ، وهذه المعلومات الجديدة التي نحصل عليها مع مطلع كل شمس تجعلنا أكثر فهماً للحياة .
قلت :
-     موسوعات العالم كلها لا تساوي تجربة إنسانية واحدة !
رد عليَّ بشيء من الضيق الذي لم يفلح بإخفائه عني :
-     حال اليوم ليس كحال الأمس يا أبي !
وبعد نقاش طويل قال ولدي وهو يبتسم ابتسامة راسخة كأنه يريد بها التأكيد بأن جيله أعمق فهماً للحياة من جيلنا :
-     يبدو أن لقاءنا على أرضية مشتركة أمر مستحيل !
    صدمتني كلماته النزقة ، لكنني ضغطت على أعصابي ، وتذرعت بصبر أيوب كما كان جدي يفعل أيام زمان حين كنت أثيره بأفكاري الجديدة الجريئة ، وقررت في سري أن أتابع الحوار بنفسية ذلك الطفل الذي كنته في يوم من الأيام ، الذي وقف قبل سنوات طويلة يواجه جده بنبض الشباب وحماستهم ، قلت :
-     بالنسبة لي كل شيء قابل للحوار ، المهم أن نحتكم معاً إلى مقياس محايد لا نختلف عليه .
قال :
-  المسألة لا تحتاج إلى مقياس ولا ميزان ، المسألة واضحة وضوح الشمس ، فأنتم عشتم ظروفاً غير ظروفنا ، ومن الطبيعي أن نختلف .
قلت مؤيداً :
-  الاختلاف بين الناس أمر طبيعي ، بل هو مطلوب من باب النقد والتناصح ، ولكن بشرط أن ينتهي آخر المطاف إلى رأي أفضل !
قال :
-     على أية حال الأيام سوف تحسم المسألة.
قلت :
-  إنَّ ترك المسائل للأيام هو دأبنا نحن الشيوخ الذين أوشكنا أن نخرج من الحلبة ، أما أنتم ، الشباب ، فليس في صالحكم أن تتركوا مشكلاتكم للزمن لكي يحكم فيها!
قال :
-     من طبيعة الحياة أن تتجدد ، وكلما أتى جديد أزاح من طريقه القديم إلى غير رجعة .
قلت :
- صحيح ، لكن ثمة ثوابت في هذه الحياة لا تتغير بتغير الزمان والمكان ، وأرجو أن لا تغيب هذه الحقيقة عن ذاكرتك يا ولدي كما غابت عن ذاكرتي زمناً طويلاً حسبت فيه أن كل شيء قابل للتغيير ، بل أكثر من هذا ، فقد آمنت إيماناً راسخاً في مرحلة طويلة من عمري أن كل شيء يجب أن يتغير ويتجدد وإلا جمدت الحياة وأمست مستنقعاً راكداً ليس فيه غير العفونة ، غير أني أدركت بعد فوات الأوان أنني كنت مخطئاً أشد الخطأ حين عرفت أن الحياة بلا ضوابط وثوابت تضبط مسيرتها تمسي جحيماً من الفوضى لا يطاق !
قال ولدي :
-  ليس هذا ما أردت ، وإنما أردت أن أقول إن الحياة كالشجرة لا يمكن أن تثمر وتدوم حياتها ما لم تجدد خلاياها .
قلت :
- هذا النوع من التجدد مطلوب ، فلولاه لانتهت الحياة ، ولكن عليك يا ولدي ملاحظة أن هذا التجديد يجري من خلال مجموعة من الثوابت ، فليس للشجرة مثلاً أن تتخلى عن الأرض التي رضعت منها عناصر بقائها بحجة أنها تتوق إلى حياة جديدة ، ولا ينبغي للشجرة كذلك أن تتخلى عن طبيعتها التكوينية وإلا فإنها لن تبقى شجرة ، ومادمنا نريد لشجرة حياتنا أن تتجدد نحو الأفضل فإن علينا ابتداء أن نعرف الثوابت التي لا تقوم الحياة من دونها !
هز ولدي رأسه وقال :
-     صحيح .
 قال ولدي ذلك ومضى .. ولا أدري حتى اليوم هل قالها عن قناعة منه وإيمان بما قلت ، أم قالها عزاء لي مؤثراً ترك المسألة للأيام لتقول فيها كلمتها التي لا ترد !؟

د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق