الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2012-03-24

قصة قصيرة ( الأرنب ) - بقلم: د. أحمد محمد كنعان


لا ناقة لي ولا جمل في هذه الحرب، فعلامَ أبقى في جحيم هذه المدينة المجنونة التي اختارت الدمار بمحض إرادتها ؟

جمعت متاعي على عجل وتوجَّهت صوب البرِّية ريثما ينجلي الموقف ويتوقف الدمار، فأنا لا أقوى على رؤية الدماء، وأنا ضد الحرب على طول الخط، لا أكره شيئاً في الدنيا كرهي للحرب، منذ وعيت على الدنيا وأنا لا أعرف إلا حب الناس، وظلال الهدوء والسكينة، أما الحرب ـ والعياذ بالله ـ فأنا أكرهها كرهي للعمى !


وفي الحقيقة ليست الحرب هي كل ما أكره، بل أنا أكره كل ما يمت إلى العنف بصلة .. أجل .. فأنا من أسرة عاش أفرادها حياتهم يمشون قرب الحائط ويقولون : يا رب سترك ! أبي كان يكره الحرب، ولم يتردد لحظة واحدة حين رأى أول قتيل في حرب "سفربر" أيام العصمانيين أن يرمي سلاحه ويولي وجهه نحو البراري ينشد السلام !

وخالي أيضاً الذي أصبح أول ضابط في جهاز الأمن بعد الاستقلال كان يكره العنف، وظل يفقد نجمة بعد نجمة من نجماته الثلاث إلى أن طردوه من الخدمة طرداً، لأنه ظل يرفض بإصرار أن يوجه جهاز الأمن ضد أحزاب المعارضة، ولما كان سلوك خالي هذا يتعارض مع سياسة الحزب الأوحد  عنفوه أكثر من مرة، وأنذروه أكثر من مرة، ثم لم يلبثوا أن طردوه من الخدمة إلى غير رجعة !
أما أخي فكانت له مع العسكر قصة أخرى، فقد تطوع في الشرطة طمعاً بأن يفوز بقلب "نجوى" ابنة رئيس المخفر في ضيعتنا، لكنه عندما انخرط في الخدمة اكتشف أن حماه المنتظر لم يكن سوى "بلطجي" يتزعم دوريات الأمن ليحصل بالقوة على الإتاوة من أهل الضيعة، وعندما عرف أخي أن ( حاميها حراميها ) فسخ خطوبته من "نجوى" ومن الشرطة دفعة واحدة !

بلا طول سيرة ..
لم تكن ذكرياتي عن الحرب والعنف تبعث على الاطمئنان، ولهذا لم أتردد لحظة واحدة حين نشبت الحرب بين النظام والمعاضرة أن أجمع متاعي وانسحب بهدوء، وكما عودني أبي أيام الأزمات توجهت صوب البرية، وعدت إلى عرزالي القديم المصنوع من القصب والقش، وجلست فيه أنعم بالحرية .. والأمان .. والسكينة.

يوم .. يومان .. ثلاثة .. هدوء عذب .. وعيشة ناعمة هادئة لو ذاق طعمها صانعو الحرب لألقوا السلاح من فورهم وجاؤوا ينازعونني إياها .. ولم لا ؟ أليس السلم والأمان هو ما يسعون إليه من وراء حربهم المجنونة هذه ؟ وإذاً لماذا لا يأتون إلى هنا ويكفون عن هذا الجنون والدمار ؟!

السلم هنا .. الأمان هنا .. هنا في البرية تتوقد العلاقة بين روحك والطبيعة، فينمو عشقها في جوارحك مثل أزهار البراري .. هنا يصير للظلال طعم الأمان .. وللعشب مذاق العسل !

آه يا بريتي العزيزة، أخيراً ها أنا ذا في احضانك العذبة، وها هي ذي عصافيري وفراشاتي وأزهاري كلها جاءت ترحب بي وتضمني إلى صدرها .. وها هي ذي جنادب الليل تقابلني بمعزوفة الأحلام لكي أنام بهدوء على أصداء لحنها .. وها هو ذا قمري قد سبقني إلى أحضان الليل وراح يفرش دربي بأهدابه الفضية، وما بين الفينة والفينة راح يختلس النظر إلى النجوم من حوله وكأنه يخشى أن يضبطه أحدهم بجريمة العشق التي لا يغتفرها قانون الطوارئ وصناع الحروب !
ابتسمت لقمري العزيز بشوق، وأشفقت عليه لأنه حتى وهو في سماه لم يسلم من قوانين الأرض، وناجيته من أعماقي في مودة :
كيف حالك يا رفيقي ؟
فابتسم بلا شهية على غير ما توقعت، ودعاني للرحيل، وقال بنبرة مشبعة بالحزن:
حالي يا صديقي مثل القطران !
وبعد صمت قصير أضاف بنبرة عميقة الأسى :
دعنا يا صديقي من هذه الأرض التي لا ترحم، وتعال معي نرحل إلى كوكب آخر نعيش فيه بسلام .

رددت مستنكراً :
نرحل ؟ كيف ! كيف أترك أرضي وفيها أهلي وناسي ؟!
فأجابني وهو يشهق من أعماق روحه كأنما يستعيد ذكرى ماض حبيب :
وهل أبقت الحرب أهلاً أو ناساً ؟!
قطعت نبرته الحزينة نياط قلبي، ومددت له يدي استبقيه بقربي، لكنه عاد يستعجلني الرحيل، وقال وهو يلملم ضياءه الأخير :
لو كنت حريصاً حقاً على أرضك وناسك ما تركتهم يواجهون جحيم الحرب وهربت إلى هنا لتنعم وحدك بالأمان !
صدمتني كلماته، وشعرت كأن خنجراً ضرب أعماقي لهذه الحقيقة التي فاجأني بها، لكنني كابرت  ورددت عليه مستنكراً :
أنا لم أهرب !
فابتسم ابتسامة لا تخلو من سخرية علنية ومضى عني بغير تحية !
( يا إلهي، لقد أصيبت الدنيا بالجنون ) قلت في نفسي وأنا أرى قمري العزيز يفارقني بغضب، ولم أدر أهي دعوة منه لكي أشارك بالحرب ؟ أم هو يريد أن يحبب لي السفر لأكون رفيقه في مدار الوحدة والغربة ؟ وزاد من حيرتي أن عصفورة الحب الملونة جاءتني في صباح اليوم التالي، وقالت وهي تومئ لي بجناحها نحو الشمال :
نحن راحلون، تعال معنا إلى الشمال حيث الحرية والأمان والسكينة التي تبحث عنها .
مستحيل !
رددت عليها بغضب، وتأكدت حين سمعتها تدعوني للرحيل أن الدنيا قد أصيبت بالجنون فعلاً، فالجميع باتوا يتحدثون عن الرحيل ومغادرة الوطن، وأنا سمك وسط الماء، لا حياة لي خارج هذا الوطن، فكيف أرحل ؟! التفت إلى صديقتي العصفورة وقلت لها بنبرة قاطعة :
مستحيل، فأنا لن أرحل عن هذه الأرض مهما ساءت الأمور !
فضحكت ضحكة ترددت أصداؤها في الفلوات، وقالت :
وهل يمكن أن تسوء الأحوال أكثر مما هي الآن ؟!
ولم أحر جواباً، ولأن القضية عندي قضية مبدأ رحت أناكفها، ورشفت رشفة طويلة من فنجان الشاي، وتمددت في ظل الحور، وقلت لها بلا اكتراث :
سامحيني، لن ألبي دعوتك هذه المرة فإن لي في هذه الأرض أحباباً لا أستطيع أن أفارقهم .
فقاطعتني بنبرة حاسمة :
لكن الحرب لن تدعهم كذلك !؟
وقبل أن أعرف ماذا تعني أفزعها صوت طائرة هاربة من قعقعة المدافع، فانطلقت عصفورتي نحو الأفق البعيد وتركتني نهباً للحيرة .. وسمعت وقع خطا إلى جانبي، فالتفت وإذا أرنبي العزيز يحمل في يده حفنة من الجزر ويستعد للسفر، فأمسكت به ورجوته :
أرجوك، لم يبق لي غيرك في هذه البرية ؟
فرد عليَّ بعينين دامعتين :
لم يعد لي مكان في هذه الأرض بعد أن قتلت حربكم زوجتي ..
حربنا !؟
صرخت فيه مستنكراً، فأنا لا دخل لي بهذه الحرب، قلت له، لكنه أومأ برأسه في قنوط ولم ينبس، وبعد صمت قصير كررت قائلاً :
أنا لا دخل لي بهذه الحرب، وها أنا ذا كما تراني هارب منها !
فهز رأسه بحسرة وقال :
ومع هذا فإن هروبك لن يغير من الأمر شيئاً !؟
فعدت أشرح له وجهة نظري :
أنا يا عزيزي موقفي واضح جداً من هذه الحرب المجنونة ..
فقاطعني مع تنهيدة كأنما خرجت من أعماق روحه :
وا أسفاه !
وبلا تحية تركني وانصرف .

( يا إلهي !) كلهم رحلوا .. تركوني ورحلوا .. قمري، أرنبي، فراشاتي، عصفورتي الملونة، وأمسيت وحيداً بين السفر والحرب أرقب الأيام تجري من حولي بلا طعم .. مر اليوم الأول محملاً بالأسى .. الثاني محملاً بالضجر .. الثالث محملاً بالقلق .. الرابع .. الخامس .. وجاء يوم أشرقت فيه الشمس صافية، وكان يوماً هادئاً على غير ما جرى في الأيام الخالية من أصوات المدافع، فأحسست بشيء من الأمان، وخامرني الأمل بأن تكون الحرب قد وضعت أوزارها وتوقفت إلى غير رجعة، وقلت في نفسي : إنها الهدنة، أو هي على الأقل استراحة المحاربين، وهذه فرصتي لأذهب إلى الضيعة فأزور أهلي وأطمئن على أحبابي .
وعلى الفور انطلقت أجمع بعض الزهور وأغصان الزيتون لأقدمها هدية لمن بقي منهم حياً، وابتسمت ساخراً بيني وبين نفسي وأنا أفكر بحال الناس الذين يتفاءلون بالزهور وأغصان الزيتون دون أن يفعلوا شيئاً حقيقياً للمحافظة عليها .. وفيما أنا أجمع الأغصان والزهور رحت أخمن : من تراه مات ؟ من تراه انتصر ؟ واعتصرني الأسى وأنا أفكر أن الخراب وحده هو الذي ينتصر في نهاية الحرب، وأما الناس فيخسرون، حتى من ظن منهم أنه انتصر .. وتكاملت الباقة في يدي فشممت عطرها بشهية مدمن معتَّق، وداخلني شعور دافئ بالسلام، وزادت فرحتي أني وجدت أرنبي العزيز مستلق على جنبه عند حدود البرية كأنما هو في قيلولة.
كيف حالك ؟
سألته بفرح غامر، وأقبلت عليه متلهفاً للقائه، لكنه لم يجبني ..
أنت عاتب عليَّ، أليس كذلك ؟
قلت له لعله يسامحني، لكنه لم يكترث بي وظل ممدداً على الأرض ..
قم .. يا كسلان !
ناديته، ولكزته برفق لكي يقوم، فإذا الدماء تنزف من جروحه، والشظية عالقة عند قلبه ..
لا .. مستحيل !
صرخت كالمجنون وأنا أرى أرنبي العزيز مصاباً ينزف ..
رُدَّ عليَّ أرجوك !
قلت له، وضممته إلى صدري، وكم كانت دهشتي عظيمة حين رأيته يفتح عينيه ويقول لي بنبرة واهنة لا أكاد أسمعها :
امسح دموعك يا عزيزي فلا وقت للبكاء ..
وتنهد بألم عميق وتابع :
الوقت الآن وقت اختيار، إما أن تكون القذيفة، وإما أن تكون الأرنب .. وعليك أن تختار!؟
ولكن ..
قلت، وماتت الكلمات على شفتي وأنا أرى أرنبي يمضي في رحلته الأخيرة، حاملاً في قلبه الشظية، وفي عينيه الحالمتين بقية الجواب !

***

هناك تعليقان (2):

  1. صراحة قصة رائعه و نهاية موفقه و خيارات علقها في عقولنا هذا الارنب الراحل

    خياران احلاهما مر

    شكرا دكتورنا العزيز

    ردحذف
  2. لقد كثرت الأرانب بيننا و أتمنى أن أكون أحدهم

    ردحذف