الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2012-03-26

بعد سنة من ثورتها .. القضية السورية "معاناة قاسية وآمال عريضة" – بقلم: فاروق مشوح


بسم الله الرحمن الرحيم   
كانت مقالاتنا السابقة في القضية السورية عن سنة مضت على أحداثها، رصدنا فيها معظم معالم تلك القضية اعتبارًا من البدايات التي سبقت الثورة، والخلفيات التي دفعت بهذه الأحداث إلى البروز .. حتى وقفنا على أشهر المفاصل التي سجلتها تلك الثورة العظيمة، وقد رأينا كيف سطرت من الملاحم وأحدثت من الخوارق ما لفت أنظار العالم، وأدهش مسامع الرأي العام، وأذَّن في الفضاءات ما أقرَّ في النفوس أن فجرًا جديدًا على منطقتنا قد أسفر، وأن عهدًا من الظلام قد انطوى، وأن فرج الله قريب من المؤمنين..


       كان ذلك بعد أن استولى على حكم سورية حزب تظاهر بالعمل على قضايا الأمة، وتاجر بأنبل أهداف شعوبها، وخدع جماهيرها لفترة طالت من الزمن، ساعده على ذلك فئة من المغامرين بينهم ساسة طامحون، وعسكريون متطلعون، حتى اقتنصته فئة مارقة انعزالية حاقدة، اتخذت من الجيش ميدانًا، ومن العمل الحزبي في أهدافها عنوانًا ..

       ثم تتالت القصة فصولاً من الانقلابات والانقلابات المضادة، ووصلت إلى الأيدي التي كمنت لها سنين طويلة بحيث جاء دور حافظ أسد الذي عض فريسته بأنيابه، وأنشب في جسمها أظفارًا من بداية عشر الستينات من القرن المنصرم ..

       وقد رفع شعارات براقة زعم فيها تخليص الشعب السوري من المغامرين، وإعطاء هذا الشعب المخدوع فرصة العيش الكريم ..

       مرت السنون العشر الأولى من حكمه خادعة مواربة، كان فيها يرتب الأوضاع لصالح فئته المعروفة، بل لعائلة لم تكن تحلم بمثل هذه المناصب، ولا خطر لها يومًا أن تحصل على ما يقرب منها أو يدنو إليها .. لكنه التدبير الخفي، والكيد المستتر، والمكر السيّء الذي جعله يعتمد على أبناء أولئك الماكرين؛ بحيث وقعت البلاد فريسة أجهزة أمنية، لم يعد يعرف الناس أسماءها، ولا يحصون أعدادها .. كان هم تلك الأجهزة تأليه الفرد في سورية وتمكين زعامته، بل منافسة زعامات ظهرت في المنطقة تلك الفترة القاتمة السوداء من تاريخ الأمة؛ حتى جاء عقد الثمانينيات الذي استيقظت فيه طوائف من الشعب أحست بالوجع الذي وقع عليها، وبالغفلة التي انتابتها، وكان الشعور بالظلم الذي عضها في أوجع مفاصلها هو الداعي إلى يقظتها .. فحاولت جاهدة أن تقف بوجه هذا الاستبداد المشحون بالطائفية البغيضة، والشخصانية الطاغية، والتطلع الطامع الثقيل، لكن المجابهة كانت قاصرة، والاستعداد منقوص؛فحدثت المجزرة الرهيبة بما عرف آنذاك بمأساة العصر في مدينة حماة .. وبعد هذه الهزيمة المؤلمة لجماهير الأمة تفرعن الباطل، وانتشر شره، وتفشى ضرره حتى غطى المنطقة كلها .. وما إن انتهى القرن الماضي الذي طوى عهد الأسد الأب، حتى ظهرت بدعة التوريث في جمهوريات حوّلها الاستبداد إلى إقطاعيات خاصة، ومزارع عائلية، جاء ذلك العهد بينما كانت الأمة مجروحة في كرامتها، مثخنة في كلومها، واهنة بما عانت من مخططات التدجين، ودعايات الإعلام المركزة التي لم يسمع الإنسان في هذه المنطقة منها غير الكذب المفضوح، والغش المزوق، والكلام المعسول .. بحيث غاب صوت العقل، وألغيت قواعد المنطق والتفكير السليم، وساد جهل الصخب الإعلامي الدعائي الشخصاني المصبوغ بكذب المقاومة، وروغان الممانعة، وباطل التحدي والتصدي، وفضائح التوازن الاستراتيجي .. كل ذلك أخفى العمل الدائب _في عقد التحالفات الطائفية والصفقات الخيانية، والتعهدات الوقحة بتطمين العدو، وتأمين راحته، وهدوء حدوده .. كما أنه طمأن القوى الكبرى باسم مكافحة الإرهاب؛ ولا يقصد بهذه المكافحة إلا الشعب الطامح إلى التحرر والانعتاق ..

       جاء ذلك التوريث مع بداية القرن الحاضر، وقد طغت عليه العولمة التي جعلت العالم قرية صغيرة؛ حيث اتخذت تلك القوى من تلك العولمة الطاغية سياطًا تلذع به أبشار الشعوب المستضعفة، مستعينة بالحكومات الاستبدادية التي تأخذ بخناق شعوبها، وتستولي على مقدراتها، وتكمم أفواهها، وتمنع فيها أي حراك ..

       وإذا كانت تلك الفترة سجلت الكثير من حركات التململ بوجه هذا الطغيان العالمي المستكبر؛ فإن شعوب أمتنا لم تستطع أن تتفلت من القبضة المحكمة التي نسجت خيوطها الموثقة من إعلام كاذب خادع مخبول، ومن قوى عسكرية مجنونة الخطط والتحركات، ومن عوامل اقتصادية واجتماعية تمثل الجشع والأطماع النهمة ..

       لقد جاء العقد الذي حكم فيه الوريث نسخة هزيلة مقلدة لحكم الأب أسد، التي أحكمت الأمور للاستئثار والفساد وإدامة الاستبداد .. كان الوريث امتدادًا سيئًا واهيًا لتلك الفترة السوداء؛ على الرغم من انخداع الكثيرين بآمال زائفة عقدتها على شباب العهد الوريث، وعلى طبول دعايته الصاخبة، وبالتضليل الذي شاركت فيه قوى محلية وإقليمية وحتى دولية .. لكنها جميعًا لم تستطع أن تنتزع تحقيقًا واحدًا لأي وعد، أو إبرارًا فريدًا لأي عهد كان قد طبل له الزمارون، أو نسج حوله الأماني والأحلام حملة المباخر وتجار المصالح والأهواء ..

       كان عقدًا من الأماني الكذاب، والسراب الخادع، والحيل المكشوفة؛ بل رافق ذلك كله استكبار متسلط، وامتهان مذل، وملهاة سوداء ساخرة .. كل ذلك باسم المقاومة التي لم ير الناس فيها لا مقاومة ولا من يقاومون، خلا ما ينفخ إعلامهم فيه بمقاومة الآخرين، كما لم يحصل من الممانعة إلا الكلام الذي غطى على صفقات سرية، وعقود لحماية حدود العدو _وهذا ما ظهر الآن من حماية العدو لهذا الحكم، ومقاومته للثورة السورية الباسلة_ .. وبالجملة فإن مهازل هذا العقد الأخير شحنت الشعب السوري إلى درجة كانت أحداث الربيع العربي الشرارة المنتظرة التي أفرغت الجماهير من صبرها، وفجرت في النفوس غيظها، وألهبت في المشاعر مخزون طاقتها ..

       كانت تلك ثورة الشعب السوري التي جاءت بعد كل هذا المخاض العسير، وهذه الآلام المبرحة، وتلك المعاناة القاسية .. وبعد سنة شديدة الوطأة على الشعب السوري ماذا يمكن أن نتصور من أحداث قادمة، وماذا يمكن أن نسجل من استشرافات متوقعة على ضوء ما بأيدينا من وقائع راهنة، ومعطيات حادثة وقائمة ..

       أولاً: الشعب السوري يواصل ثورته بلا هوادة، وهو مصمم على متابعتها مهما بلغت التضحيات، ومهما غلت الأثمان، ومهما واجه من أهوال ..

       ثانيًا: النظام مصر على بطشه، وإبادته المدمرة للشعب بلا تمييز، التي لم يعد لها مثيل حتى في أقصى درجات الخيال، فهو لا يملك إلا هذا الحل الامني الإجرامي العنيف .. وما يناور حوله من طروحات سياسية، وألاعيب دبلوماسية، وقبول بحوار هو إلى الفخ الكلامي أقرب _خالٍ من المعنى والصدق والجدية_ ما هي إلا مكائد ينصبها بالتعاون مع حلفائه المقربين وداعميه الدوليين، والساكتين على مكره وكيده، ليضلل كل الجهات التي تتخلى عن واجبها في إحقاق شرعة الحقوق الدولية، وتحكيم المبادئ الإنسانية المعلنة في أجواء سياسية، وعلاقات دولية مغشوشة ..

       ثالثًا: ما جرى ويجري الآن من بيانات أممية، وأفكار على المستوى الثنائي أو الكتل الدولية أو مجلس الأمم وحقوق الإنسان والأمم المتحدة؛ ما هو إلا عجز مكشوف تغلفه هذه الجهات بعبارات مزوقة خالية من أي دلالة عملية مفيدة ..

       رابعًا: الجهات الداعمة للنظام، تعطيه كل يوم جرعة جديدة للحياة، يتقوى بها على قتل الشعب السوري .. وبذلك تكون هذه الثورة السورية النبيلة من أبخس ثورات العالم حظًا، وأقلها نصيبًا من الإنصاف، وأكثرها معاناة في مواجهة الطغمة الحاكمة أو المجتمع الدولي .. ولقد يعجب المتابع كيف يبلغ الانحطاط بمسؤول دولة كبرى _وزير خارجية روسيا_ أن يصر على موقفه في الدعم الكامل لنظام الاستبداد في سورية ومعاداة الشعب بصفاقة منقطعة النظير؛ وهو يكشف عن أفكار عجيبة غريبة نابية في تواضعات العمل السياسي الدولي .. يزعم فيها أن زوال حكم حليفه بشار؛ سوف يحكّم أهل السنة في البلاد، وهو برأيه ما يحدث اضطرابات في المنطقة لا يقبلها هذا المأفون الذي بلغ من الانحطاط في التفكير إلى درجة لم يصل إليها حتى ملالي إيران الذين يصدرون إلى العالم مثل هذه الأفكار .. فنحن أمام "مُلاّ" جديد على الساحة الدولية ..

       خامسًا: الموقف العربي متخاذل جدًّا، متردد بلا مسوغ، ضعيف هازل، واهن القوى .. فقد كان المطلوب منه أن يكون مبادرًا وعمليًّا وشجاعًا .. في أقل الأحوال حسب الكلام الذي نسمعه من بعض المسؤولين والتصريحات التي صدرت عن جهات رسمية في دنيا العروبة والإسلام وبخاصة أنهم يعرفون ما يجري على الشعب السوري من ظلم، وما ينصبّ عليهم من عذاب، وما يلاقونه من هؤلاء الجلادين المجرمين القساة .. الذين أبطرهم صمت هؤلاء المسؤولين العرب وترددهم، وتآمر الخارج وتواطؤه مع النظام ..

       سادسًا: المعارضة في الخارج تعطي للرأي العام ذرائع التردد، وحجج التلكؤ عن العون والمبادرة في دعم الشعب واتخاذ القرارات الرادعة لأركان النظام، ومساعدة الشعبعلى التصدي لعنفه وحملته التدميرية الشرسة، كما تجعل العسكريين المنشقين في حالة من العجز لا يستطيعون معها اتخاذ المواقف المناصرة للشعب بسبب فقدانهم ما يساعد على ذلك من مناطق محمية، وممرات آمنة ..

       وإذا كانت هذه المعارضة تجتمع في أغلبها على هدف إزالة النظام والإطاحة بمؤسساته وأركانه؛ فإنها تختلف بعد ذلك في كل شيء بسبب اختلاف مشاربها، وتشتت دوافعها، واستشراء أطماع الكثيرين من أفرادها ..

       إن هذه العناصر التي رسمنا معظم تضاريس خريطتها، وشخصنا أكثر عوامل صورتها على ساحة الواقع؛ يمكن أن تستشرف لنا صورة غير سهلة في انتظار حل قريب لمأساة ثورة أصيلة جريئة .. فهناك نظام فقد كل معنى للإنسانية في سلوكه أو نواياه ويساعده موقف دولي أقصى ما لديه كلام حول حلول سلمية أو سياسية تصدم أهداف الثورة في سورية وتحبط آمالها ..

       والنقطة المضيئة في هذه اللوحة الدامية هي موقف الشعب الثائر الذي لا يقبل المساومة على هدفه في إسقاط النظام وإزالة أركانه ودعائمه، ومحاكمة مسيئيه ومجرميه حتى أصغر مسؤول .. كما يمكن أن نرى بقعة الضياء الهادية في صلابة الجيش السوري الحر الذي يقوم بالمقاومة البطولية لجيش النظام وعناصره القاتلة؛ بما يملك من سلاح متواضع، وأوضاع غير مساعدة، ولا يراهن إلا على فدائيته وإخلاصه ..

       فالآمال عريضة بإذن الله؛ بأن تتحول كل العوامل التي كانت منتظرة لدعم الثورة ومساعدة مسيرتها إلى ارتداد عملي على النظام سوءًا ومواجهة، وبذلك تفلس أوراقه جميعًا، ويصيبها اليأس والبوار واليباب ..

       "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين" ...

       2/جمادى الأولى/1433هـ
25/3/2012م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق