الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2012-03-27

قصة قصيرة: جرائد الصباح – بقلم: د.احمد محمد كنعان


كانت فرحة الأصحاب الأربعة بلا حدود فهاهم يلتقون في ساحة السجن بعد شهور طويلة من الفراق غير مصدقين أن هذا يحدث في السجن المركزي الذي فاقت سمعته السيئة سمعة الباستيل !

أخذوا ناحية من الساحة ، افترشوا الأرض ، وراحوا يتبادلون الحديث بحذر وهم يسترقون النظر إلى الحراس الذين وقفوا أعلى السور يرصدون حركاتهم وسكناتهم ، فيما كانت رائحة الزنازين العفنة تهب عليهم بين الحين والآخر فتزكم أنوفهم .. سألهم أبو همام :
-     إيه ، يا شباب ، ما هي أخباركم ؟
فردَّ أبو صهيب بابتسامته العذبة المعهودة التي لا تفارق شفتيه :
-     مثل أخبارك !
وضحك ضحكة مكتومة ، فيما همس أبو إقبال :
-     الحمد لله على كل حال ، المهم أنهم كفوا عن تعذيبنا في الأيام الأخيرة .
فالتفت إليه أبو همام يسأله في دهشة :
-     حقاً ! ومنذ متى ؟
-     لا أدري ، لقد فقدت الإحساس بالزمن في علبة الكبريت التي حشروني فيها لأنهم ضبطوني منذ فترة وأنا أصلي .
قال أبو سعيد وقد رأى أبا محمد واجماً لا يشارك بالحديث :
-     ما لك يا دكتور ؟! تبدو مهموماً على غير عادتك ، لقد كنت دوماً تحثنا على الصبر ، وتهزأ بالمصائب ، فما بالك اليوم على هذه الحال ؟!
فالتفت إليه أبو محمد مع ابتسامة شفافة ، وقال :
-      لا ، لا شيء ، يا أخي ، فأنا والحمد لله بخير ، ولكن بالي مشغول على البلد ( وتنهد ملء رئتيه وأردف ) لقد طالت المحنة ، ولا يبدو في الأفق أي ضوء للانفراج !
قال أبو سعيد :
-     لكنها سوف تفرج بإذن الله تعالى ، والمثل يقول : اشتدي أزمة تنفرجي ، استعن بالله يا أخي .. استعن بالله ..
-     ونعم بالله .
-     لكنك تبدو مرهقاً حقاً !
-     لا ، فأنا كما قلت لك بخير والحمد لله ، لكن لعلي أرهقت نفسي في الأيام الأخيرة لأنني أحاول إنهاء الكتاب الذي حدثتك عنه قبل عامين عندما زرتني في المستشفى ..
-     كتاب ؟! ( سأله أبو إقبال ثم أضاف ) أي كتاب هذا الذي تكتبه في السجن ؟ ومن أين لك بالورق والقلم و ..
فابتسم أبو محمد قبل أن يجيب :
-     سوف تضحكون لو قلت لكم .. لقد حصلت على القلم من أحد الحراس الطيبين الذين تعرفت عليهم مصادفة واكتشفت أنه كان أحد تلاميذي قبل سنوات ، وأنا الآن أكتب على الحيطان !
قال أبو صهيب وهو يداري ضحكته بكفه :
-      ولكنك تعلم يا أبا همام أن الحيطان دفاتر ..
قاطعه أبو همام :
-     أعرف ، أعرف ، الحيطان دفاتر المجانين ، أعرف هذا جيداً
وانطلق يضحك وانطلق الأصدقاء يضحكون ، وبعد برهة عاد أبو محمد ليقول كأنما يتابع ما قال :
-     ليست الحيطان وحدها دفاتر المجانين فالبلاد كلها تعيش هذه الأيام نوبة عجيبة من الجنون !
وسأله أبو صهيب :
-     هل أنت جاد في الكتابة على الحيطان ؟!
-     طبعاً .. ولم لا ؟!
-     تتابع الكتابة على الحيطان ؟!
-     أجل ، إنني أحاول أن أستكمل بحث "الألـم" الذي بدأته قبل اعتقالي ، وقد أضفت له حقائق كثيرة عن الألم بعد أن جربته عملياً هنا ، ولا أخفيكم أنني اكتسبت الكثير من الخبرة بعد هذه التجربة ..
حدجه أبو صهيب بنظرة ذات مغزى وعاد يسأله بنوع من الدعابة :
-     وهل تعني أنك سعيد بهذه التجربة !
فتنهد أبو محمد من أعماقه ، ونقل بصره بينهم ، ثم خطف نظرة إلى الحراس المنتشرين في كل مكان ، وعاد يقول :
-     أنا سعيد بكم يا إخواني ، فهذه اللحظات العذبة معكم كافية أن تنسيني آلام الدنيا كلها.
والتفت إلى أبي سعيد وشد على زنده وقال :
-     ما لك يا أبا سعيد أرى صحتك على غير ما تركتك في المرة الأخيرة التي رأيتك فيها ، هل توقفت عن الرياضة ؟!
-     رياضة ؟!
ردَّ أبو سعيد باستغراب ، وابتسم بسخرية ، ثم تابع :
-     وأية رياضة يا أخي في هذه القبور !؟
-     أجل رياضة ، الرياضة في السجن أمر واجب وإلا أصابتنا الأمراض والعاهات ( ونقل بصره بينهم وتابع ) تكفيكم بضع ركعات بعد كل صلاة لكي تحافظوا على لياقتكم !
-     صلاة ؟! ( قال أبو إقبال وهز رأسه بألم قبل أن يعود ليقول ) وهل يسمحون لنا بالصلاة أصلاً ؟!
-     أعرف هذا ، ولكننا مع ذلك لم نتوقف عن الصلاة ، يكفي أن تومئ بعينيك وتصلي ، وبعد أن تفرغ من الصلاة قم ببعض الحركات .
-     سأفعل إن شاء الله .
قال أبو همام ، والتفت أبو محمد إلى أبي صهيب وسأله :
-     أين وصلت في حفظ القرآن الكريم ؟
-     الجزء العشرون بفضل لله
-     عظيم ، عظيم جداً !
قال له ، وربت على كتفه مشجعاً ، وقطع حديثهم صوت الحارس ينادي عند باب الإدارة بصوته الأجش :
-     الدكتور عبد الودود .. الدكتور عبد الودود ..
-     خير يا طير ؟
قال أبو محمد ، وقام يلبي النداء قبل أن يتعرض لعقوبة التأخير ، وودع أصحابه على عجل وقال وهو يمضي :
-     شدوا حيلكم يا شباب ، ادعوا لنا ..
قاده الشرطي إلى مدير السجن الذي فاجأه فقام يرحب به على غير العادة ، ( اللهم لطفك ! ) قال في سره ، وأوجس في نفسه خيفة وفكر أن في الأمر سراً مزعجاً دون ريب ، وسمع المدير يقول له :
-     أهلاً دكتور عبد الودود ، أهلاً ، تفضل ، اجلس
لكنه تردد بالجلوس وظل واجماً في مكانه لا يريم ، فعاد المدير يشير إليه أن يجلس ، فجلس على الكرسي المقابل للمكتب ، وقرع المدير الجرس فجحضر الحاجب على عجل ، ضرب الأرض بقدمه وصرخ :
-     أمرك سيدي !
قال المدير :
-     أحضر لنا فنجانين من القهوة ( والتفت إلى عبد الودود ) كيف هي قهوتك يا دكتور ؟
قال :
-     سادة .. قهوة سادة ..
وعدل المدير جلسته في كرسيه الفاره ، ورتب بعض الأوراق أمامه ، ثم نظر إليه نظرة ودودة كما خيل له ، وقال :
-     كم أنا سعيد لأجلك يا دكتور عبد الودود ..
-     ... !؟
-     التقارير عنك جاءت مرضية تماماً ، ونحن آسفون جداً لطول بقائك عندنا ..
وجاءت القهوة فناوله الحاجب فنجانه ، وتناول المدير فنجانه فرشف منه رشفة خفيفة ، وسحب من العلبة أمامه سيجاراً غليظاً أشعله بحركات أنيقة مصطنعة ، ورشف منه رشفة طويلة ثم نفث الدخان في سماء الغرفة فشكَّل بها دوائر غامضة راح يتأملها وهي ترتفع نحو السقف ، ثم عاد يكمل حديثه فقال كأنه يعتذر :
-     أنت تعرف يا دكتور عبد الودود أن الأوامر العسكرية مشددة ، ولا نقاش فيها ، ونحن كما تعلم لسنا سوى موظفين ننفذ الأوامر ..
وقام فمد جسده البدين من فوق المكتب واقترب من عبد الودود وهمس :
-     أنا مثلي مثلك ، عبد مأمور !
فهز الدكتور رأسه يجاريه ، وشعر في صدره غصة ، وازداد وجيب قلبه فهو حتى تلك اللحظة لا يدري ما وراء الأكمة ، ولا يستبعد أن يكون وراء هذا الحديث الرقيق مصيبة كبيرة كما هي عادة هذه المخلوقات التي لا تعرف الرحمة ، وعادت به الذاكرة إلى أسبوع مضى حين دخل عليهم المدير نفسه في منتصف الليل وكان يهذي ويشتم من أثر السُّكْر ، ومارس عليهم أبشع أصناف العذاب دونما سبب ، وتركهم بين الحياة والموت ، وانصرف وهو منتفش يضحك ، ويهذي من سكره ، ويوزع عليهم الشتائم من كل لون .. وسمع النقيب يتابع حديثه ويقول وهو لا يكف عن ابتساماته الغامضة :
-     حقك علينا يا دكتور ، ازرعها بهذه الذقن ..
ومسح على ذقنه الحليقة ، فيما عادت الذاكرة بالدكتور مرة أخرى إلى ذلك اليوم الذي جاءهم فيه المدير وأمر أحد العساكر أن يطلي الجدار الذي كتب عليه الدكتور جزءاً من كتاب "الألم" الذي استغرق أياماً في كتابته ، ولم يكتف المدير بذلك ، بل أمر للدكتور بعلقة ساخنة يومية لمدة نصف ساعة إذا عاد للكتابة على الحيطان مرة أخرى ، وقال النقيب كأنما انتبه للشرود الذي بدا على الدكتور عبد الودود :
-     مبروك يا دكتور عبد الودود ، لقد جاء الأمر بإخلاء سبيلك ، وسوف تخرج اليوم ..
ونادى الحاجب فأمره أن يذهب بالدكتور إلى مكتب الأمانات ليأخذ أمانته ، ويبدل ثيابه ، وينهي إجراءات خروجه من السجن .
ابتهل عبد الودود في سره ، ونظر إلى المدير نظرة امتنان ، وقام يصافحه ويشكره ، وأحس للحظات أنه يعيش حلماً لا حقيقة ، فلم يَدُر في خلده قط أن يخرج من هذا الجحيم بهذه السهولة ، وفكر أن يطلب من المدير ليسمح له بوداع إخوانه قبل أن يغادر السجن ، لكنه سريعاً ما عدل عن الفكرة فهو مازال لا يصدق أن يخرج من السجن على رجليه ، فكيف يفكر بمثل هذه المراسيم !؟
**
حين غادر بوابة السجن الحديدية الصدئة وقف لحظات يستنشق عبير الحرية لأول مرة بعد هاتيك السنوات الطويلة التي قضاها من شبابه في الداخل ، وبدأ يفكر بأهله وولده الوحيد الذي لم يره بعد ، فقد اعتقلوه بعد شهرين من زواجه يوم أن بشرته زوجته بحملها الأول ، وداهمه خاطر ملحّ أن يغادر الوطن مع عائلته عند أول فرصة ويبقى هناك ريثما تتحسن الأحوال ويلغى قانون الطوارئ وينتهي حكم العسكر ، وراح يمني نفسه أن الحكومة جادة هذه المرة بالتغيير والإصلاح كما سمع من بعض العساكر داخل السجن ( نسأل الله أن يحصل هذا ، فالظلم والاستبداد لن يدوم إلى الأبد ! ) قال في نفسه ، وعاد يطرد من رأسه فكرة الرحيل ومغادرة البلد ، ولام نفسه على مثل هذه الأفكار السوداوية ( البلد بلدنا على أية حال ، وكما قال الشاعر الوطني ذات مرة : بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة ) ونظر إلى السماء فعاهد الله أن لا يفكر بالرحيل عن وطنه مرة أخرى حتى وإن عادوا فسجنوه أو عذبوه ( كل شيء يهون كرامة للوطن ) قال في سره .. وفاجأه صوت عجلات سيارة مسرعة ، وفرامل تشحط على الأرض ، وصوت رصاصة سكت بعده كل شيء !
وفي صباح اليوم التالي نشرت الجرائد في هامش الصفحة الأخيرة خبراً يقول : الدكتور عبد الودود محمود ، قائد التنظيم السري الإرهابي ، هرب ليلة البارحة من السجن المركزي ، وقد تمكنت قوات الأمن من ملاحقته وقتله بعد أن رفض الاستسلام !

د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق