العدس دلالة على الفقر وسوء النوايا
، أما الفقر فقد تحدثت معاجم اللغة وكتب الأدب عن هذا الاصطلاح المضني فهماً ،والمشكل
تمثلاً ؛ حيث أريق حوله مداد كثير ، فلو كان رجلا لقتلوه فيما مضى .وأما سوء النوايا
فلموقفنا الاقتصادي والأخلاقي من العدس فهو مهان مبتذل، نشتم به الآخرين إن كانوا من
الآكلة له ،وممن يعاقروه صيفا شتاء.
عرفت العدس مبكرا مطلع الثمانينيات
، وكان متلازما مع الصعود ، صعود (السقيفة) ، حيث كانت أمي ترفعني ، وأنا غض العظام
والأطراف، كي أدس رأسي في كيس من (الخيش)، وضع فيه العدس على السقيفة، وأملأ لها ماعونا
، ثم تنساني هناك..... وأنساها ، وأبدا بحساسية الاكتشاف عند الطفل في التنقيب بمحتويات
السقيفة..... فجأة أعثر على صندوق، أفتحه وإذ بكتب ران عليها الغبار ، ومنذ تلك اللحظة
أصبحت رحلة العدس هي أجمل ما أتمناه.
في تلك الحقبة من عمري المغمور قرأت
كتاب ألف ليلة وليلة وكتاب الشاهنامة للفردوسي ، كتاب الشاهنامة هذا هو الملحمة الوطنية
لبلاد فارس ، ولم أكن أعرف عنوان الكتابين ؛ لأنهما كانا منزوعي الغلاف ، حيث حصل عليهما
أخوتي الكبار من معمل الكرتون في عرطوز حيث كانت ترد الكتب لفرمها وتحويلها إلى كراتين
بيض، في زمن البعث، حيث كان يفرم المعرفة ،ويحفظ فيها مخلفات الدجاج .. في زمن الدجاج
.
لم أكن أعرف اسم هذين الكتابين، ولاقيمتهما
المعرفية ، ولكنني كنت أنتظر أن تطهو أمي عدسا؛ لأرتقي السقيفة ،وأسافر في غيابات الخيال
مع هذين المؤلفين العملاقين ، وعندما احترفت دراسة الأدب تعرفت على الكتابين عن كثب،
فأدركت أن هذا ذاك في زمن العدس الجميل .
كانت هذه الحالة الخيالية تنتهي بصراخ
أمي، بحثا عني بعد أن نسيت أين أودعتني ؛فقد احتبست أنفاسي مع الكتب، وتوقفت ضوضاء
عمري عن الحراك ، وبعد أن تناديني باسمي عدة مرات تنهي بحثها المحموم بكلمة :(وين راح
العجي)؟؟؟ فأعرف أنني المعني بالنداء؛ فأهبط بسلام لأجد العدس ،وقد فت فيه الخبز وبدا
موجعا بالليمون ، فلا أدرك أن هذا طعام الفقراء في زمن الفقد .. زمن الصمود والتصدي
البعثي .
كان قلبي يجل العدس ،حتى استوقفتني
شتيمة طبقية لأحد الناس بأن قال : (هذا ما ياكل غير شوربة عدس)، فأدركت أن العدس ليس
له عظيم القدر عن أقوام آخرين ، حيث انبرت المجموعة المستمعة للشتيمة العدسية بتعميق
الفكرة؛ بأن آكلة العدس هم من الأقوام ذوي الدرجات المتدنية . سرح عقلي مع ألف ليلة
وليلة، ساعتها أدركت أني أجلس مع قوم في قفص دجاج .
غابت فلسفة العدس حقبة ليست باليسيرة
، حتى حادثة اغتيال رفيق الحريري ، حيث أطل علينا (أحمد تيسير أبو عدس) ، وهو شاب فلسطيني
يدعي أن ينتمي لتنظيم جهادي ، وهو من قام باغتيال الحريري ، دققت في الفيديو ، فرحل
عقلي إلى السقيفة ، وإلى حكايات ألف ليلة وليلة الخيالية التي بدت واقعية أكثر من هذا
الشريط ، الذي كان وراءه (علي مملوك) بكل ما أوتي من حماقة (هبنَّقة) رمز الحمق العربي
.
غاب العدس وشقيقه الحمص ، مسمارا الركب،
كما يسميهما أباطرة الفقر المحترف في سوريا عن المشهد ردحا من الزمن ، حتى أعادت جنوب
دمشق العزة والمجد للعدس على يد ناصر ، وهو صديق عزيز ، شاعر رقيق ، مرابط في جنوب
دمشق ؛في السيدة زينب؛ فأعاد الأمور إلى نصابها وجعل العدس ملك الملوك ، وأثبت بأدلة
حسية ملموسة قدرة العدس على التحول ،وأنه ليس جامدا في (الشوربة والمجدرة)، بل هو مشتق
وكامل التصريف ، حيث صار خبزا وفلافل وحلويات ،وبذلك جمع مجد الطعام من جميع أطرافه
، وأثبت ضلال أبي العلاء المعري عندما اعتمد العدس طعاما والتين حلوى ؛مدة خمسين سنة
، ولو عرف المعري ناصرا لكفاه مؤنة إهدار الدراهم على شراء التين.
في جنوب دمشق ، الجنوب المقدس ، الجنوب
العدسي؛ بكل ما أوتيت الحياة من عدس وشبق ، وبكل ما أوتي الإنسان من خذلان وتخل، أشاد
ناصر إمبراطورية العدس .
ليس لي في ذاكرتي في ماض جميل منصرم
إلا أمي ،ترفعني بعيدا في رحلة العدس والخيال واللذة والمتعة، وعندي ناصر يعيد تريب
الحياة بعدسها ومرها ....
كم أتمنى أن أكون قريبا من أمي ،كي
ترفعني بعيدا كما كانت حتى أجلب العدس لجنوب دمشق .. حيث إمبراطورية ناصر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق