كان النور ينتشر في تلك الغرفة كل صباح، من
نافذة مطلة تماما على ناصية الطريق المغادرة لحي بابا عمرو باتجاه الإنشاءات
طلبت من الأخت الكبرى ان تقوم بتنظيفها، وترتيب
السرير، وتبديل الشراشف. وملئ الكوز بالماء من مزاريب المطر
قامت الاخت بذلك على أكمل وجه وكأنها غرفة
عريس سيأتي بعروسه هذه الليلة تماما...
أوصدت النافذة رغم ان زجاجها مهشم والريح تعبث
بالستارة الممزقة، وأصوات الانفجارات تملأ المكان ويهتز الكوز على الطاولة الواقفة
على ثلاث ارجل لتحطم الرابعة برصاص اعمى، لقناص سادي، لا يدري ماذا يريد
ساد الصمت على المكان، صارت تلك البرودة القاسية
نفحة مميزة لذلك الصمت المخيم على الأثاث البسيط والأشياء والتي كانت تظهر عليها الدهشة
من هذه العناية التي تحظى بها كل يوم، ويعاد ترتيبها قي موعد ثابت لا يتغير ...
أما التقويم المعلق على الجدار قرب النافذة،لم
يزايله أحساسه بالحسرة على الأوراق التي تقطع منه يوميا،
إنها قسوة غير مجدية ان يشير إليها التاريخ
في ذلك الظلام، وذلك الصمت، والساعة العتيقة المصنوعة من البرونز على هيئة جرة فخارية،
وكانت هي الأخرى تشعر بهذه القسوة التي ترغمها على ان توالي دقاتها الكئيبة هناك في
ذلك الصمت القاتم الحزين .....
على المنضدة الصغيرة كان دورق الماء الزجاجي
الأخضر يخفي بأرضيته ترسب التراب المرافق لماء المزاريب، ذلك الدورق المغطى بكأس منكس
عليه، يسرق ما يتسرب للغرفة من نور من الإطار الخشبي للنافذة ليعكسه ويبدو ضاحكا ساخرا،
من تلك الدهشة والحزن المنتشرين في ارجاء الحجرة
وكان هذا الدورق هو الشيء الوحيد الذي يحمل
شيئا من الحياة،في تلك الحجرة....!!
أما الشمعة، فمن لهفتها وشوقها إلى اللهيب
الذي يستهلكها ...أصبحت صفراء شاحبة، كأنها عذراء ناضجة فاتها حظ الزواج حتى تلك الشمعة
كانت تستبدل كل خمسة عشر يوما على الرغم أنها لم تشعل ولم تمس، حتى لا يرينها هكذا
صفراء شاحبة، وحتى لا يرين في ذلك الاصفرار والشحوب، الأشهر التي مرت دون أن يأتي أحد
لإشعالها عندما يأتي المساء
التقويم ؟ ذلك القريب من النافذة؟؟؟
انه جديد، اما تقويم العام الماضي فقد كان
يشعر بالأوراق تقطع منه يوميا وفي موعد دقيق طوال الأشهر الفائتة من العام الماضي،
ورقة كل صباح
تلك الساعة العتيقة فوق الصندوق، تلك الساعة
التي تمزق بدقاتها ذلك الصمت المريب،ب غيظ كبير. تحرك عقربها على مهل، كأنما تريد أن
تفصح عن انها تؤقت برغبتها، ولكنها مرغمة على هذه الحركة إرغاما ً..
أما الشمعة المعروفة في ذلك الشمعدان، فإنها
مستغرقة في صمودها الشاحب، ولم تهتم بذلك الدلال الذي يبدو في حركة الستارة،ولا في
ابتسامة الدورق، إنها تعرف ماذا تنتظر هناك ......ماذا...؟؟
لقد مضت ثمانية أشهر والأم الثكلى، والأخت
المكلومة، يعتقدن أنه يمكن، بل عليهن انتظار العودة المحتملة للأخ ثائر .....الذي خرج،
وانقطعت أخباره
ام تستيقظ مع طلوع الفجر لتعد إفطارا لولدها
الوحيد، تأتيه بما اعتاد عليه كل صباح لكن لم يتناول ولدها إفطاره منذ ثمانية أشهر،
ومازالت تعده وتضعه جوار سريره.
وفي دهشة يتساءلون ؟؟؟؟ ألن يعود ؟؟؟؟
كان انتصارا لتلك الشمعة المصفرة المغروسة
في شمعدانها من ثمانية أشهر، والتي يسخر منها الدورق، والساعة العتيقة، والستارة، وشظايا
الزجاج المعلق بإطار النافذة الخشبية، والطاولة الصغيرة، والكتب المرتبة عليها
....
كانت تحس شوقا الى اللهيب حتى ترعى ميتا آخرا،
هنا، فوق الفراش المهجور...
وكان انتصارا لتلك الشمعة ،وظل التقويم يشير
إلى تاريخ اليوم الذي مضى؟؟؟؟!!
2 شباط 2012 .....بدأ القصف على حي بابا عمرو
؟؟!!!!!!
اخترقت قذيفة غادرة عمياء النافذة، ودمرت كل
شيء، قتلت من في البيت
لقد توقف الحلم يوما واحدا في تلك الحجرة التي
تنتظر، ويبدو انه توقف إلى الأبد
وكانت الساعة البرونزية العتيقة حزينة كئيبة
ذاهلة، تتابع حديثها عن الزمن في ذلك الانتظار الدامس الذي لا حد له
...................
محمد صالح عويد
الرياض 5 -3 -2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق