يعلوني الألم,
ويتملَّكني القهر, ويحيط بي الخجل, وأنا جالس في بيتي أسطِّر هذه السُّطور, وأهلي
في إدلب، وجسر الشُّغور، وبابا عمرو، يكابدون عناء نزف الدَّم، وتضميد الجراح،
بينما يحيطهم القصف والجوع والظَّلام, ولست أستطيع أن أخفِّف من محنتهم شيئاً يذكر!.
إنَّني ما تجرَّأت على أن أمسك القلم لأكتب لأهلي في حمص؛ إلا أنَّها رسالة
اعتذار, ولسنا للأسف نملك سوى الاعتذار!!.
إنَّها رسالة
اعتذار لكلِّ طفل أصبح من يومه يتيماً لا يجد أباه, ولكلِّ طفل صار شليلاً، أو
كسيحاً، أو مبتور الأعضاء، وهو في مقتبل حياته وزهرة طفولته ..
ورسالة اعتذار
إلى كلِّ أمٍّ ثكلى قد فقدت وليدها بصاروخ المجرم, وراحت صرخاتها وسط ضجيج الصَّرخات
.., و إلى شخص راح يبحث عن بقايا جسد قريبه وسط الأشلاء ..
رسالة اعتذار
إلى كلِّ حرَّة انتهك عرضها, ولكلِّ أبيَّة ساموها سوء العذاب, ولكلِّ مريض فقد
دواءه، ولم يستطع الحصول عليه, فيعاني شدَّة الآلام, ولكلِّ عائل أسرة قد فقد عمله
ومصدر قوته, فيعاني كلَّ حرقة إذ يرى أبناءه يتألَّمون من الجوع ..
رسالة اعتذار
من الشُّعوب لا من الحكومات، فهي غير مضَّطرة ولا مكرهة ولا ضعيفة لتعتذر, إنَّها
تستطيع العون وتقدر على الدَّعم ويمكنها الدِّفاع, لكنها لها حسابات أخرى قد لا
يكون من بينها وقف نزيف الألم في سورية !.
العالم كلُّه
يقف صفاً واحداً، يتصرَّف بدم بارد أمام المستضعفين القتلى والجرحى في سورية,
بعضهم يعلن موقفه الخبيث ( كروسيا والصِّين والجزائر ) إعلاناً لا يُبقي في وجه
صاحبه مزعة لحم من حياء أو إنسانيَّة, والبعض الآخر يلبس قناعاً زائفاً، قد تكشَّفت
حقائقه جليَّة عبر أكثر من دليل.
الغرب أمام أعيننا
يتواطأ مع الطَّائفة النصيرية, ويطأطئ الرَّأس أمام رغبات " إسرائيل "
في الإبقاء على النِّظام النُّصيري الباطني الخبيث.
الأنباء تأتينا
كلَّ يوم بما يدلُّ على ما نقول, البارجتان الإيرانيتان اللَّتان مرَّتا من قناة
السُّويس على مرأى ومسمع من إسرائيل, وموافقة وسماح من مسئولين مصريين, لتستقرَّا
في ميناء طرطوس ميناء النصيرية في الشَّام.
واللِّواء المدرَّع الإيراني الذي يقتحم على السُّوريين
بيوتهم ويهدمها فوق رؤوسهم, وضباط المخابرات الإيرانيون الذين يقودون العمليات
القذرة, والذين ألقى الجيش الحرُّ القبض على بعضهم، وعرضهم أمام الكاميرات.
وفيلق القدس
الذي طالما أعلنت إيران أنَّها أعدته لفتح القدس, يستبيح الحرمات، ويهتك أعراض
أخواتنا الشَّريفات العفيفات، أمام مرأى ومسمع رجالهم المكبَّلين المقهورين, ثمَّ
يقتل الرَّجال أمام أعين النِّسوة المهتكة أعراضهنَّ, بينما الصَّرخة مكتومة في
صدور الأطفال الصِّغار!.
أمريكا من جانب
آخر، تكتفي بالكلمات المنمَّقات المشابه لكلمات النَّعي من القساوسة التي يقولونها
على القبور والموتى, بينما تمتنع عن أي فعل مؤثِّر, فتمتنع عن حظر الطَّيران،
وتمتنع عن تسليح المقاومة، وتمتنع حتَّى عن عقوبات رادعة للنِّظام السُّوري.
فرنسا وأوربا
أيضاً، يعلنان عدم إمكانيَّة التَّدخُّل بشيء لحماية الثُّوار والمستضعفين, وأنَّ
مفاوضاتهما هي لمجرد الإغاثة, فيكتفيان أمام العالم بدور " الحانوتي "
!!.
ثمَّ تأتي
تصريحات وزير الدِّفاع الصُّهيوني باراك مطالباً الغرب بتخفيف الضُّغوط على الجلاد
– بشَّار – لا على الضَّحية, تليها الأنباء عن الطَّيران اليهودي الذي يقصف الثُّوار
في حمص.
كلُّ ذلك، ونحن
نشاهد المذبحة, وتعرض أمامنا الفضيحة ليل نهار, حتَّى مؤتمر تونس الذي أقيم لنصرة
المستضعفين صار مؤتمراً " لأصدقاء بشار " !!.
إنَّ الكلمات
لتأبى التَّعبير، والألفاظ تمتنع عن البيان, وكأنَّ الطُّرق مسدودة بلون الدَّم, وبلون
الألم, والجدران تهدَّمت, بعدما نخرتها معاول الألم، واشتكت من جلد العدوِّ، وضعف
الصَّديق، وكأنَّ الشَّوارع السَّابحة في الظَّلام الدَّامس تاهت أسماؤها وتشابهت,
فالكلُّ يؤدِّي لمثوى واحد هو مثوى النَّزف..
فيا أمَّ الصَّغير
الذي اغتالته دبابات الغلِّ الطَّائفي القديم: قولي للجالسين فوق موائد بيع سورية،
إنَّ ابنك الجميل قد قتل, وهو يلقي صرخة من حنجرته الأبيَّة في مظاهرة الإباء..
كلُّ ثلاجات
الموتى قد امتلأت عن آخرها, وكلُّ المستشفيات قد امتلأت بالجراح وبالأنين..
مئاتُ الشُّهداء،
وآلاف الجرحى، تختلط دماؤهم بدماء بعض, وتختلط منهم قطرات الدَّم، وقطرات الدَّمع
المنهمر من قلوب جميع الشَّعب المجروح بجراح الغدر..
كلُّ شيء كما
كان, الدَّبابات الحقود تصبُّ جام أذاها في كلِّ صباح مكلوم على البيوت والطُّرقات,
يسقط أطفال صغار, وشيوخ كبار, ونساء أرهقهنَّ عناء الطَّريق, بين قتيل زفَّته
الحور إلى الشَّهادة, وجريح لا يلوي على شيء سوى الشَّهادة..
الأمَّهات
يظللنَّ يبحثن عن بقايا جثث أطفالهنَّ في كلِّ مكان، بجوار أطر السَّيارات, وأرصفة
الشوارع, وأبواب الدَّكاكين المغلقة..
فيا صرخة الأمِّ
الثَّكلى .. انتظري قليلاً ليعود إليك طفلك الصَّغير, لابسا أحسن الثِّياب, اللَّون
لون البياض, والثَّغر باسم مزهر, والرُّوح ترفرف من حوله, لقد أسميناه " الشَّهيد"...
جاء ليسعدك
بخبر الثَّبات والإباء والانتصار, يقول لك: يا أمَّاه!! ألقيت الحجر, وعدت كرجل !!
عدت ببسمة على شفتي, يا أمَّاه!! إني الأمل, حتى لو مت, فانسجي من أنَّات موتي
ثوباً جديداً، وسمِّيه باسم سورية..
ويا شعب الشُّهداء:
أيُّكم الشَّهيد القادم؛ حتَّى نعد له أكاليل الانتصار؟! حتَّى نكتب له ألف قصيدة
شعر، أبياتها من لون حياة الأبرار..
إنَّ المحنة
دوماً هي رحم القوَّة, ومنطلق ولادة الانتصار, وإنَّ آتون الآلام لتنصهر به الصِّفات
فيتميز طيبها من خبيثها, فتنقى كما ينقى الذَّهب الإبريز, فلا يبقى ثَمَّ في
الأطفال بعد المحنة إلا صفات الرُّجولة والعزم، ولا يبقى في النِّساء إلا صفات
الفضيلة والصبر والقناعة، ولا يبقى في الرِّجال إلا الكرامة والاستعلاء فوق
الأزمات..
إنَّ أظافر
المحنة الجارحة لتفتل حبلاً وثيقاً يربط المؤمن بالله, حين يرى ضعفه وقلَّة حيلته,
ويدرك فقره وخور قوَّته, فيلجأ إلى القوي العزيز، ويقرُّ له بكلِّ حول وقوَّة،
وبكلِّ قدرة وعزَّة، فيسلِّم شأنه لربه, وتصبح حياته سابحة في يقين راسخ، وتوكل
مخلص، تنتظر لحظة الانتصار..
ثمَّ ها أنتم
يا رجال سورية, وبعد أيام طوال، تستقبلون يوما آخر من أيام النَّزف, وكعادتكم ترفعون
معه راية الانتصار, تزيِّنها كلُّ أسماء الشُّهداء والجرحى والثَّابتين من أبناء ذلك
الشَّعب الأبيِّ الكريم..
لقد استمعت إلى
تصريحات الطَّبيب عن الشُّهداء والأطفال، وهو يقول: إنَّ الجثث وصلت محترقة ومقطَّعة
بشكل كامل, ممَّا صعب التَّعرف على هويَّة بعض الشُّهداء..
وذكرت عندها
مقولة عمر – رضي الله عنه - يوم لم يعرف أسماء بعض الشُّهداء.. فما زاد أن قال:
ولكن الذي أكرمهم بالشَّهادة يعرفهم !!. فيا عمر بن الخطاب! يا فاتح الأقصى! ومذل
الظَّالمين، وناشر العدل والحرية والكرامة: هل أتاك نبأ الأمَّة بعد قرون ؟! عرضٌ
مستباحٌ, ودينٌ مضَّطهدٌ, وأملٌ مغتالٌ, وطفلٌ ينتحب, ومسجدٌ يتهدَّم,.. وآخرون
يصطفُّون في طوابير العمالة, يتقوَّتون الخبز من أيدٍ ملوَّثة بدماء أبنائنا،
ويصافحون الخونة في الأروقة!!.
إنَّها مقارنة
تفرض نفسها في كلِّ وقت وحين, بين قوم طابت أنفسهم لما عند ربِّهم, ورأوا الحياة
كلَّها طاعة له وعبوديَّة, فلم يهمهم ذكرهم ولا علوِّهم فيها, فراحوا ينشرون معاني
التَّضحية والفداء, يرتجون رحمته، ويسارعون إلى جنته, وبين آخرين غرَّتهم الأيام،
واجتالتهم ألوان الزَّخارف, وجذبهم بريق المال, واستكانة الرَّاحة, وصولجان السَّيطرة
على النَّاس, فذلُّوا لعدوهم, وقدَّموا له قرابين الولاء !!.
ثمَّ أخبرت
الأنباء أنَّ قادة الغلِّ الحقود، قد اتَّخذوا قراراً أن يستمرَّ سفك الدِّماء,
غير آبهين بذاك البركان المتزلزل في القلوب والنُّفوس, غير آبهين بتلك المجازر,
وأنَّهم أحكموا الحصار على حمص, وأغلقوا الطُّرقات, وقطعوا الكهرباء, وقصفوا
المدارس, وسدُّوا الطَّريق إلى المساجد, واستهدفوا سيارات الإسعاف, وأنَّ الطَّائرات
التي قصفت الأطفال في الصَّباح, ستعود بالمساء, تريد إشباع النَّهم للدِّماء!!.
وأنتم أيُّها
الفرسان: لقد علَّمتم العالم معنى المعجزة، عندما تتحوَّل إلى واقع يحيا, جسد مكبَّل
وروح رفرافة, مولد جيش جديد، وسلاح بلون جديد, وصاروخ مصنوع من اليد النَّازفة,
وغضبة موقوتة ملؤها يقين وثبات, وتوكُّل وإنابة، ورغبة في الخلود.
لقد رقيتم
مرتقىً سماوياً, وتركتمونا هاهنا وحدنا, نعاني القيد، وأسر الزَّخارف والشَّهوات,
ونلملم في كلِّ يوم بقايا الانكسار مصحوبة بثمن بخس مهين..
لكم نشعر
بمرارة في حلوقنا، وحسرة في مشاعرنا، أنَّا لم نستطع أن نقدِّم سوى النَّزر النَّادر
القليل, ولم نستطع أن نمسح دمعة طفل لفراق أبيه, ولم نستطع أن نعالج جرحاً نازفاً
في صدر أبيٍّ صامد, ولم نستطع تقديم شربة ماء لحلق قد أكله الجفاف, ولم نستطع حتَّى
أن نشارك في جنازة الشُّهداء..
إنَّ اهتمامنا
لأمركم ليس شأناً خاصَّاً بنا, وبكاءنا على آلامكم ليس مجرد عاطفة عابرة في
صدورنا, وحرصنا على خيركم، ليس فضلاً كامنا فينا, ورغبتنا في نصرتكم ليس صدقةً
نتصدَّقها, إنَّما اهتمامنا بكم واجبٌ شرعيٌّ في أعناقنا, وبكاؤنا إنَّما هو على
جراح أجسادنا، التي إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائرها بالحمَّى والسَّهر,
ونصرتكم ديانة وثواب, وعزَّة لنا وكرامة, وحرصنا على خيركم هو حرص النَّفس على خير
ذاتها..
فيا أيها الشَّعب
الحبيب: نستميحك عذراً أنَّا لا نقدر أن نقدِّم سوى ذلك القليل, ولكنَّ عزاءنا أنَّ
هذا القليل، قد قطعناه من جوف قلوبنا, دعاءً وابتهالاً, ورجاءً وتضرُّعاً لله
الكريم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق