الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2012-01-24

حقيقة النصر ومعانيه – بقلم: د. أبو بكر الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى في كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم
(( قُتِلَ أصحابُ الأخدودِ، النَّارِ ذات الوقودِ، إذْ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )) البروج ( 4_7 ). صدق الله العظيم .

هذه الآيات هي من سورة البروج، وهي من السور المكيّة، التي تُعنى بعرض حقائق العقيدة، وقواعد التصور الإسلامي، وتهتمُّ ببناء القاعدة الصلبة من المؤمنين، الذين يقوم على أكتافهم بناء الدين، والدفاع عن المباديء .


وهي تحكي قصة مجموعة من المؤمنين السابقين، الذين ابتلوا بأعداء كفرة حاقدين، وطغاة ظالمين مجرمين، أرادوهم على ترك عقيدتهم، والتخلّي عن مبادئهم، فأبوا ذلك، واعتصموا بعقيدتهم، واستمسكوا بمبادئهم، فحفر لهم الطغاة أخدوداً، وأوقدوا فيه النيران، ثم قذفوهم فيها، على مرأى ومسمع من الجموع المحتشدة، التي ساقها الطغاة بالقوة، لتشهد فصول تلك المذبحة الرهيبة، وبمثل تلك الدرجة من الوحشية والساديّة، وانعدام أية أثرة من خلق إنساني، أو ضمير بشري، وبدون أي ذنب اقترفه المؤمنون، اللهم إلا ( ذنب ) التمسك بالمباديء، والدفاع عن العقيدة، والهتاف للحريّة ...!!!
وربَّ سائل يسأل : ترى، مالذي يمكن أن تفعله حفنة من المؤمنين، أمام جيوش الطغاة الجرارة، وقواتهم المدجّجة بالسلاح .!؟

وما هي النتيجة التي يمكن أن تتمخّض عن صمود مجموعة من المؤمنين، واستبسالهم عن مبادئهم، ودفاعهم عن حريّتهم، واستشهادهم من أجل عقيدتهم.؟

وللإجابة على مثل هذا التساؤل المهم نقول :
إن النصر الحقيقي  أيها السوريون البواسل، هو في تمسك أصحاب العقائد بعقائدهم، ودفاعهم عن قيمهم، وإصرارهم على حريّتهم، وتضحيتهم من أجل مبادئهم، ولقد تكفّل الله تعالى، بتحقيق النصر لعباده المؤمنين، على أعدائهم الكافرين، فقال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ((إنا لننصرُ رسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة، ولهم سوء الدار )) غافر ( 52).

وإذا جاء الوعد من الله المقتدر، فلا شك أنه حاصل لا محالة، ولكنَّ الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن جوهرها وحقيقتها، أو يقيسون بفترة قصيرة من الزمان، وحيّز محدود من المكان، وهي بلا شك مقاييس بشرية قاصرة .!

فأما المقياس الإلهي، فهو مقياس شامل، يعرض القضية الإيمانية في رقعتها الفسيحة، الممتدّة على مديات الزمان والمكان .

ولو نظرنا إلى القضية الإيمانية بهذه السعة، وهذا الشمول، لرأينا أنها قد انتصرت في النهاية من دون أدنى شك، فلقد خاض الإيمان مع الشرك _ منذ فجر البشرية إلى اليوم _ جولات وجولات، كانت الغلبة في النهاية لصالح التوحيد والعدل والإيمان على حساب الشرك والظلم والطغيان .!

هذا من جهة ... ومن جهة أخرى، فإن الناس يقصرون معنى النصر على صور حسيّة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم ...

ولكنَّ صور النصر في ميزان الله كثيرة ومتعددة، وقد يتلبَّس بعضها بصور الهزيمة عند أصحاب النظرة السطحية المحدودة ..

فخليل الله إبراهيم عليه السلام، كان قد انتصر _ في ميزان الله _ وهو يُلقى في نار النمرود، لأنه كان قد ثبت على عقيدته، ولم يتنازل عن مبادئه ..!!!

وأصحاب الأخدود، الذين سبقت الإشارة إليهم، كانوا قد انتصروا أيضاً، وهم يُلقَون في نار الطغاة، لأنهم كانوا قد تمسَّكوا بدينهم، وضحّوا من أجل عقيدتهم ومبادئهم .!!!

والحسين بن علي  رضي الله عنه، كان قد انتصر، بالرغم من استشهاده، في مؤامرة فارسية خسيسة وجبانة معروفة ...!!!
وما كان لألف خطبة، وألف قصيدة أن تنصر قضيّته، كما نصرتها قطرات الدم المهراق من جسده الطاهر فوق تراب كربلاء ..!

وشعب سورية العظيم اليوم يسجّل في كل مطلع شمس انتصاراً رائعاً في ملحمته التاريخية الباهرة على آلة القمع والإجرام الأسدية، بالرغم من آلاف الشهداء والمعتقلين والمهجّرين ...
لأنه شعب عظيم يدافع عن عقيدته، وينتخي لعروبته، ويطالب بكرامته وحريّته ...

على أن صورة النصر الحسيّة المعروفة للناس، لم تكن بعيدة _في ميزان الله أيضاً _ عن أهل الإيمان والمباديء، فلقد انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على جاهلية العرب الأولى، نصراً حقيقيّاً مؤزّراً، فسحق المشركين، واقتلع الشرك من جزيرة العرب، ثم خرجت جحافل المسلمين، فانساحت شرقاً حتى وطئت بحوافر خيلها تربة الصين، وغرباً، حتى خاضت بتلك الحوافر في مياه الأطلسي .!!!

وها هي كتائب جيشنا السوريّ الحرّ البطلة تسجل في كل يوم انتصارات باهرة على العصابات الأسديّة الظالمة، في حمص وريف دمشق ودرعا وإدلب، وغيرها من المدن والبلدات السورية الثائرة، حتى باتت تهدد الأسديين في أوكارهم، بالرغم من الفرق الهائل في العدد والعدّة، لصالح العصابات الأسدية، بما يبشّر باقتراب ساعة الحسم، وسقوط العائلة الأسدية، وتحرر الوطن قريباً بإذن الله ...

وهناك اعتبار آخر، تجدر مراعاته كذلك، وهو أن وعد الله قائم للرسل والذين أمنوا، بسم الله الرحمن الرحيم (( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا )) ...

فلا بدَّ _ إذاً _ أن توجد حقيقة الإيمان في نفوس الذين يتطلّعون إلى نصر الله، وهي لا توجد، إلا حين تتخلص القلوب من كل مؤثر غير حب الله، والإخلاص لدينه، ثم العمل الجاد لنصرة الشعب والوطن والمبادئ .

فإذا ما استقرّت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين، وانعكست آثارها على سلوكهم وواقعهم، فليبشروا عندئذٍ بنصر الله الذي لا يتخلّف عن عباده المؤمنين، تحقيقاً لوعد الله وعهده، والله لا يخلف الميعاد .
بسم الله الرحمن الرحيم (( وكان حقَّاً علينا نصر المؤمنين )) صدق الله العظيم ..

الدكتور أبو بكر الشامي
دمشق : في الثلاثين من صفر / 1433 هجري
الموافق : للرابع والعشرين من كانون الثاني / يناير / 2012 ميلادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق