في
زيارتي الأخيرة إلى تركياـ تهيأت لي فرصة طيبة لاطلع على بعض الإنجازات العظيمة
التي حققه هذا البلد الصديق خلال سنوات قليلة من عمر الزمانـ فليس غريباً إذن أن تطالعنا
الأخبار يوماً بعد يوم أن تركيا بدأت تسترد أبناءها الذين هجروها لعقود طويلة مشردين
في أصقاع المعمورةـ فقد نشرت مجلة "دير شبيجل" الألمانية في عدد خاص
أفردته للحديث عن التطورات الهائلة التي شهدتها تركيا خلال السنوات القليلة
الماضيةـ تضمن مقابلة مطولة مع اثنين من
الأتراك الذين هاجروا إلى ألمانيا في الستينات من القرن الماضيـ وعادوا مؤخراً إلى
أحضان موطنهم تركياـ أحدهما المواطن التركي بهادر < BAHADIR > هو رجل عادي قصد ألمانيا مهاجراً
في أواسط الستينات من القرن المنصرمـ وقد فوجيء حال وصوله إلى ألمانيا أنه المهاجر
التركي رقم "مليون" وكان في استقباله حشد كبير من العمال والمسؤولين
الألمان الذي رحبوا به ومنحوه الجنسية الألمانية على الفورـ وحريٌّ بشخص قوبل هذه
المقابلة الحارة أن يكون شديد الانتماء للبلد الذي احتضنه فلا يفكر بمغادرته على
الإطلاقـ وبالفعل عاش الرجل سنوات لا تنسى من حياته في تلك البلاد التي كانت تنهض
بقوة من مآسي الحرب العالمية الثانيةـ وساهم الرجل في بناء البلدـ وقدم أفضل ما
عنده من جهده .
إلا
أن الرجل في السنوات الأخيرة بدأ يشعر بخيبة أمل لما آلت إليه الحال هناكـ فقد
تغير الألمان كثيراً كما ذكر هذا الرجلـ وبدأ الفساد والكسل والمحسوبيات تنخر في
جسد الأمة الآرية التي كانت إلى حين تعد نفسها الأمة الوحيدة الجديرة بالعيش
الكريمـ كما أن أخبار بلده تركيا بدأت تدغدغ أحلامهـ وتذكره بالذي مضى من حال
تركيا العظيمة التي ظلت لقرون طويلة سيدة الدنياـ وعندما سئل الرجل عن أسباب حنينه
إلى موطنه وعودته إلى أحضان بلده ذكر الكثير من أخبار تركيا الحديثة التي بدأت
تخرج من مستنقع العلمانيةـ وتعود إلى أفياء دينهاـ ولعل أكثر ما شجع الرجل على جمع
حقائبه وعودته إلى بلده أخبار القضاء على الفساد هناكـ وما حققته تركيا من نهضة
صناعية وعلمية واسعةـ والقضاء على البطالة والفقر بعد أن تضاعف دخل الفرد التركي
أكثر من خمس مرات في غضون عشر سنوات فقطـ ولهذا لم يتردد الرجل في جمع حقائبه
والعودة إلى بلده للمشاركة الفعالة في بناء مستقبلها كما شارك من قبل في إعادة
بناء ألمانياـ علماً بأن هذا الرجل ليس الوحيد فقد سبقه بالعودة عشرات الألوف من
أبناء تركيا كما ذكر في مقابلته .
والحقيقة
أن ما ذكره هذا المواطن التركي العائد بشوق إلى أحضان بلده الأم ليس هو كل شيء عن
تلك النقلة الواسعة التي حققتها تركيا خلال السنوات القليلة الماضيةـ وجعلتها
تسترد أبناءهاـ في ظل حزب العدالة والتنمية بقيادة المبدع الكبير
"أردوغان"ـ بل هناك أسباب أخر عديدةـ نذكر منها ذلك الموقف الكبير الذي أجبرت
فيه تركيا كبار مسؤولي الكيان الصهيوني على الاعتذار عندما تعمد الرجل الأول في
خارجية الصهاينة قبل عام على إهانة وزير خارجية تركيا !
ثم
جاء ذلك الموقف الآخر الكبير حين انسحب رئيس وزراء تركيا "رجب طيب أردوغان"
في مؤتمر دافوس 2009 من المنصة التي كان يناظر فيها رئيس الكيان الصهيوني
"شمعون بيريز" احتجاجاً على مدير اللقاء الذي لم يعط أردوغان الوقت الكافي
للرد على افتراءات بيريز !
وموقف
آخر أكبرـ ذكره العالم العربي الكبير "أحمد زويل" الحائز على جائزة نوبل
في الكيمياء لدى زيارته لتركيا العام الماضيـ فقد ذكر في مقابلة تلفزيونية شاهدها
الملايين أنه كان في زيارة لتركيا مبعوثاً علمياً من قبل الرئيس الأمريكي "أوباما"ـ
وكان على موعد لمقابلة "أردوغان" فطلب منه السفير الأمريكي في تركيا
مرافقتهـ فذهبا معاًـ وعندما دخلا مكتب أردوغان وجاء السكرتير بخير أردوغان
بمجيئهما أنكر أردوغان مجيء السفيرـ وطلب من سكرتيره إدخال زويل وحده دون السفيرـ
وهكذا ظل السفير ينتظر ولم يسمح له أردوغان بمقابلتهـ ولم يكتف "زويل"
بهذا الخبر الذي يثلج الصدر لأنه يعبر عن اعتزاز رجل تركيا الأول بنفسه ووطنه وأمتهـ
ويضع الأمور في نصابهاـ بل ذكر زويل ما يثلج الصدر حول التقدم الهائل الذي طرأ على
التعليم في تركياـ ووصف تلك النقلة بأنها "مذهلة" وأن مستوى الجامعات في
تركيا أصبح يضاهي مثيلاته في أرقى دول العالم !
ثم
جاء الموقف الأخير من قبل تركيا في حادثة "سفينة الحرية" التي أعدتها
تركيا لرفع الحصار عن غزة التي ارتكب فيها الجيش الصهيوني تلك الجريمة الشنعاء التي
راح ضحيتها عشر شهداء من الأتراكـ فقد توعد "أردوغان" الكيان الصهيوني
بحساب عسير للمسؤولين عن الجريمةـ وبدأ خطوات عملية حاسمة في هذا الاتجاهـ فجمد
العلاقات مع الصهاينةـ وأوقف العمل بكافة الاتفاقيات المبرمة بينهماـ مما اضطر
كبار المسؤوليبن الصهاينةـ والأمريكيينـ وهيئة الأمم المتحدةـ للتدخل واحتواء
الخلاف بين الطرفينـ واعدين تركيا بتحقيق مطالبها كاملة !
إن
هذه المواقف الوطنية النادرةـ وتلك الأخبار عن هذا البلد الإسلامي الذي استطاع في
سنوات قليلة أن يقضي على الفسادـ وينهي مشكلات البطالة والفقرـ ويرفع دخل الفرد
أضعافاً مضاعفةـ ويقف هذه الموافق العظيمةـ ويحرز هذا الوضع العالمي والإسلامي
الكبيرـ جدير بأن يسترد ثقة أبنائه بهـ وأن يسترد أبناءه .. فهل يفعلها
"الربيع العربي" ويعيد لنا أبناءنا الذين شردهم الاستبداد والحقد
والرعونة السياسية في أصقاع الأرض ؟ نرجو ذلك .
د.أحمد محمد كنعان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق