من
حين أن خبا صوت المآذن في مساجد حماة ، بعد الانتهاء من تدميرها في أواخر شهر شباط
من عام 1982م ، وتوقفت أجراس الكنائس أيضا ، وساد المدينة صمت المقابر المعهود،
بعد نحو شهر من الحصار والقصف المتواصل بالطائرات وراجمات الصواريخ ، وتدمير البيوت فوق سكانها ، واستباحت المدينة
، وارتكاب المجازر الجماعية الفظيعة بحق السكان المدنيين ، والتي يقدر عدد ضحاياها
شهدائها ، بأربعين ألف مواطن ، مابين رجل وطفل وامرأة ، إضافة إلى تشريد عشرات
الآلاف من الأسر ، التي باتت مستهدفة من جانب العصابات الأسدية ..
ومن حين إعلان المعارضة المستقرة خارج القطر (انكفاءها ) ، بعد أن
(نفرت) وتجمعت من أجل نجدة حماة ، ثم تراجعت لأن حماة قد ذبحت ، وانقضى الأمر ،
ولأنها وجدت نفسها عاجزة عن النصرة ، ثم أعلنت صراحة ، أنها تنكفئ عن المواجهة
المسلحة رحمة وترفقا بالشعب، لأن الحكم الأسدي مستعد لتدمير المدن فوق سكانها ،
من أجل البقاء في السلطة ، ومستعد لارتكاب المجازر الجماعية بحق المدنيين بلا حدود
، على مسمع العالم ، وأمام ناظريه ، دون أن يحرك هذا العالم ساكنا ، أو يوجه مجرد
إدانة لما حدث في حماة خاصة ، وفي تدمر وحلب وإدلب، والمدن السورية الأخرى ..
فكان هذا التصريح ، الذي أرادت المعارضة به إبعاد الحرج عنها بسبب انكفائها ، كان بمثابة
تأكيد للنظام الأسدي ، على نجاعة هذه الخطة القمعية اإجرامية المدمرة ، وجدوى
تكرارها كلما لزم الأمر .. ثم انشغلت هذه المعارضة بنفسها ، وصارت تبحث عن مخرج أو
حل .. فأعياها المخرج أو الحل !
ومن حين راح حافظ أسد يتقبل التهاني من أعوانه ومستشاريه ، بمختلف
أشكالهم وألوانهم ، على نجاح خطته العسكرية في إخماد الثورة الشعبية ، غير آبه بما
جر على البلد من تدمير ، وعلى المواطنين من قتل واعتقال وتشريد .. وما تبع ذلك من إعلان
المعارضة الانسحاب من المواجهة ، أمام تلك الهمجية والوحشية ..
منذ ذلك الحين ، صار لدى الحكم الأسدي خطة عسكرية استراتيجية (مجربة ) ، لإخماد أي
ثورة تعارض النظام ، وتطالب بالحرية والكرامة والعدالة ، وبات مطمئنا إلى أن حكمه
محصن من الداخل بالقوة العسكرية الباطشة ، التي تأكدت فاعليتها ، مهما بلغ التدمير
، ومهما بلغ عدد الضحايا ، ومحصن من
الخارج بالنفوذ الواسع لإيران وروسيا ، والضمانات والتفاهمات ، التي طمأنت الدول
المعنية بوضع المنطقة ، على ضمان الهدوء والاستقرار ، الذي يهدف بالدرجة
الأولى إلى أمن (إسرائيل ) ، وحماية
حدودها من جهة سورية من أي اختراق ، يعكر صفو أمنها واستقرارها ، بعد أن ضمنت
(إسرائيل) حماية حدودها على الجبهات
الأخرى بالمعاهدات والاتفاقات .. وساد شعار : الأسد .. إلى الأبد ، وفتح باب
الفساد والبغي والظلم والغطرسة والتجبر على المواطنين ، للعصابات الأسدية وأتباعها
على مصراعيه ، بلا رقيب ولا حسيب !
ولقد شكلت الثورة الشعبية السورية الحالية ، ثورة (الحرية
والكرامة ) ، التي انطلقت في (15 آذار 2011 م) ، في خضم الثورات العربية ، وما بات
يعرف بثورات الربيع العربي ، شكلت مفاجأة غير متوقعة للنظام السادر في غيه وتجبره
على المواطنين ، المطمئن إلى حكم سورية إلى الأبد .. ووجد أنه أمام ثورة عارمة من
نوع آخر ، ومن غير الممكن تكرار تجربة حماة معها ، وهي على هذه الحال ، والقضاء
عليها بالحسم العسكري والسلاح ، وذلك نظرا لأنها ثورة شعبية سلمية منظمة ، ترفع
شعارات وحدة وطنية ، ولا تحمل سلاحا ، ولا تنتسب إلى جماعة أو طائفة ، وليس لها
لون سياسي ..
وصارت الثورة تنتشر وتتسع مظاهراتها بطريقة متسارعة ، واستطاعت
خلال فترة وجيزة أن تعم مختلف محافظات القطر ، ووجد النظام نفسه في حصار حقيقي،
وليس أمامه من خيار سوى الرحيل ، أو الاستجابة لمطالب الشعب ، والقيام بإصلاح شامل
حقيقي ، وهو ما سيؤدي - أيضا - إلى الرحيل الحتمي ، بعد أن بلغ الظلم والاضطهاد
والاستبداد والفساد مبلغه.
كما أيقن النظام أن هذه الثورة لن تهدأ ، ولن تنكفئ ، ولن تتراجع
، دون أن تحقق مطالبها في الحرية والكرامة والعدالة ، وأنها تتجه إلى اكتساح
معاقله ، وتهدد باجتياح حصونه ، وأن لاشيء يمكن أن يوقف زحفها .
وهنا تفتقت عقلية الإجرام الموروثة المتأصلة لدى النظام الأسدي،عن
خطة تقضي بتحويل المواجهة إلى مواجهة مسلحة ، لكي يبرر استعمال السلاح على أوسع
نطاق ، غير آبه بما يمكن أن يخلف هذا النهج على الوطن من تدمير شامل . وبدأت الخطة
بمواجهة المتظاهرين بالرصاص، وإعطاء التعليمات بقتل مجموعة منهم في كل مظاهرة ،
بذريعة وجود مسلحين مندسين ، وتحميل المسلحين مسؤولية القتل، من أجل إرهاب
المتظاهرين ، والحدّ من انتشار المظاهرات ، أودفعهم إلى حمل السلاح لحماية أنفسهم
، وليمنعوا عنهم القتل والاعتقال والاختطاف والتنكيل الشديد، الذي يصل حد الموت ،
من جانب أجهزة القمع ، بحق المنتفضين المتظاهرين العزل .
وزاد هذا التوجه نحو عسكرة الثورة ، حالات الانشقاق عن الجيش الخاضع
لسيطرة النظام، وأجهزته القمعية المكلفة بمواجهة المتظاهرين بالرصاص ، من جانب
العسكريين الشرفاء الأحرار ، الذين رفضوا توجيه رصاص أسلحتهم إلى صدور المتظاهرين
السلميين ، وقتل إخوانهم، وصار العسكريون
المنشقون مضطرين للدفاع عن أنفسهم من ملاحقة قوات النظام . ومع ازدياد هذه الحالات
، تشكلت نواة جيش مسلح ، وصار هذا الجيش
يتوسع ويزداد ، وانضم إلى صفوفه بعض المدنيين ، حذر الوقوع في الاعتقال ، والتعرض
للتنكيل بهم .. وصار في كل منطقة كتيبة عسكرية ، أو عدد من الكتائب المسلحة بما
تيسر لها من السلاح ، وصارت هذه الكتائب تسيطر على بعض المناطق وتؤمنها ، وتمنع
قوات النظام من دخولها ، والاعتداء على سكانها .
وبهذا ظن النظام الأسدي أنه في دفع الثورة نحو التسليح والعسكرة ، قد وجد
المبرر لكي يتصدى لها عسكريا ، بذريعة أنه يتصدى لمسلحين ، وأن يستعمل كل ما أوتي
من قوة عسكرية ، وبطش وعنف وإجرام لإنهائها ، وصل إلى حد اقتحام قوات الجيش الأسدي
للمدن والقرى والأحياء ، والتنكيل بسكانها أشد التنكيل ، وتدمير الممتلكات ، وحرق
البيوت بعد نهبها ، كما وصل حد استعمال الطائرات الحربية القاذفة ، المعدة أصلا
لمهاجمة الأهداف العسكرية المحصنة ، والصواريخ البالستية البعيدة ، أو المتوسطة
المدى ، في قصف المدن والأحياء والمنشآت المدنية من مدارس ومساجد وكنائس ومستشفيات
، إضافة إلى استعمال المدافع وراجمات الصواريخ .. غير أنه وجد أن الثورة تتعاظم ،
رغم كل هذا البطش والفتك ، وأن السحر – كما يقولون – قد انقلب على الساحر ، وأن
دفع الثورة السلمية ، إلى حمل السلاح ، ومواجهة العصابات الأسدية، وتنامي القدرة
العسكرية للثورة ، وتحرير مناطق واسعة ، وتطهيرها من العصابات الأسدية ، أوجد
معادلة جديدة على الأرض ، خلاصتها أن هذه الثورة لن تتوقف ، ولن يستطيع أحد
إيقافها ، قبل أن تحقق أهدافها في إسقاط النظام الأسدي بكل أركانه وأدواته المجرمة
. (يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق