انعقاد المؤتمر القومي السادس لحزب البعث
وسط تناقضات سياسية وإيديولوجية وتنظيمية
بعد أن استلم
حزب البعث السلطة في سورية، وجد نفسه في وضع معقد ومتناقض إلى ابعد حدود التعقيد والتناقض..
وإذا نظرنا إلى ما يجري في الداخل، فإنه سيتضح لنا أنَّ حكم الحزب في الحقيقة إنما
هو اسميّ. وأن السلطة الحقيقية، سلطة التقرير، فقد تمركزت تدريجياً في أيدي العسكريين.
وبما أن الحزب
كحزب لم يكن لديه قيادة مركزية كفؤة وقوية، فإنه لم يستطع أن يقيم إستراتيجية وتكتيكاً
واضحين تمام الوضوح، أو صياغة برنامج سياسي تفصيلي موحد، فقد نجح من غير شك في إبعاد
الخصوم، ثم الحلفاء الواحد بعد الآخر في مدة وجيزة. إلا أن (العدو الداخلي) أخذ يظهر
على أنه الأكثر خطورة في المدى البعيد.
في هذه الظروف
انعقد المؤتمر القومي السادس في دمشق من 5 إلى 23 تشرين الأول 1963م. وبلغ عدد المشتركين
فيه (73) عضواً، يمثلون الحزب في العالم العربي، ولكن المندوبين العراقيين والسوريين
واللبنانيين كانوا يكونون الغالبية العظمى بين الحاضرين. ولقد كان هذا المؤتمر في نظر
البعثيين انعطافاً تاريخياً في حياة حركة البعث، حيث وجهت انتقادات في غاية العنف لسياسة
الحزب العامة وإيديولوجيته وإلى مجموعة كتاباته السابقة. (تشدد إحدى التوصيات التي
أقرها المؤتمر، على أهمية إعادة النظر في كل ما كتب، سواء ما نشر منه داخل الحزب أو
خارجه، على ضوء ما يقرر الآن في مؤتمرنا القومي، لجعله منسجماً مع التطورات الفكرية
الجديدة). أنظر مقررات المؤتمر القومي السادس-القيادة القومية-ص(60).
لقد طفت على
السطح وانفجرت طوال انعقاد المؤتمر، التناقضات الداخلية، السياسية والإيديولوجية والتنظيمية.
وكان الجو العام متوتراً إلى أبعد حدود التوتر. وتركزت المناقشات والمداخلات الطويلة
كلها تقريباً حول (التقرير العقائدي). (كتب هذا التقرير بصيغته الأصلية ياسين الحافظ
الماركسي الاتجاه من سورية، وقد انتسب إلى حزب البعث بعد وصوله إلى السلطة) هذا التقرير،
أوجد تيارين متصارعين داخل حزب البعث السوري لأول مرة وجهاً لوجه في مؤتمر عام.
الأول: وهو
يمثل الأكثرية، ويضم معظم المندوبين العراقيين والسوريين.. ويتمتع بتأييد القيادات
القطرية وقواعد الحزب في العراق وفي سورية وفي لبنان أو في أي مكان آخر، ويحمل لواءه
(علي صالح السعدي). والتيار الثاني: يمثل اتجاه القيادة القومية وأمينها العام ميشيل
عفلق، وكل التأكيدات تشير، بالفعل إلى أن ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وشبلي العيسمي،
قد أبدوا معارضة قطعية للتقرير واعتبروه انحرافاً عن الخط السياسي والمبادئ الإيديولوجية
للحزب.
لقد ركّزَ
عفلق خلال المناقشات في المؤتمر على نقطتين أساسيتين: الأولى كان يحذر أعضاء المؤتمر
من تغلغل الشيوعيين في الحزب الذين يهددونه من الداخل سياسياً وإيديولوجياً - وهذا
تلميح واضح لوجود ياسين الحافظ الشيوعي عضواً فاعلاً في المؤتمر على الصعيد الفكري
- ومن جهة ثانية، فقد شن عفلق هجوماً مضاداً ضد المتطرفين، مذكراً بنضال البعث في الماضي
من أجل توضيح وبلورة أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية.
أما فيما
يتعلق بأعضاء اللجنة العسكرية الذين اشتركوا في هذا المؤتمر، فإن موقفهم ظاهرياً كان
موقف المتفرج أمام الصراع بين التيارات القطرية والقيادة القومية - يستثنى من ذلك اللواء
محمد عمران الذي كان يدعم خط القيادة القومية في مواقفه - فهم لم يشتركوا عادة في المناقشات
أو إلقاء الكلمات أو المداخلات. وذلك في السر ووراء الستار، كان همهم الأكبر ينحصر
في أن يكونوا محور الرحى للسلطة والمرجع السياسي لها. فقد كانوا ينظرون بعين الرضى
والسرور، للهجوم اللاذع والعنيف الذي كان يوجه من قبل البعثيين المتطرفين، إلى ميشيل
عفلق وصلاح الدين البيطار على وجه الخصوص. وإذا كان هناك بعض الضباط البعثيين الذين
كانوا لا يتأخرون في دفع وتشجيع التيار السعدي في خطه السياسي المتطرف، فإنهم لا يفعلون
ذلك انطلاقاً من مواقف يسارية واضحة التحديد، وإنما لاعتبارات تكتيكية، حتى يضعفوا
موقف القيادة القومية داخل المؤتمر. (يؤكد ياسين الحافظ، أن اللواء أمين الحافظ واللواء
محمد عمران واللواء صلاح جديد، كانوا ضمنياً أو ظاهرياً ضد التقرير العقائدي، في حين
أن عبد الكريم الجندي وسليم حاطوم وحمد عبيد، لم يتوانوا في السر في بذل تأييدهم ودعمهم
لبعض البعثيين اليساريين، خاصة علي صالح السعدي. أما فيما يتعلق بنور الدين الأتاسي
وإبراهيم ماخوس، فيظهر أنهما كانا من معارضي الاتجاه المتطرف والتقرير العقائدي، دون
أن يدافعا مع ذلك عن اتجاه القياد القومية. أما بعض قياديي البعث العراقي، خاصة جواد
وطالب شبيب، فيبدو أن موقفهم هو موقف المعارض للتيار اليساري وللتقرير العقائدي معاً).
ومما يزيد
في وضوح ذلك، أن الأمين العام ميشيل عفلق ورئيس الحكومة صلاح الدين البيطار وأنصارهما
بالذات، هم الذين كانوا يتصلبون في مواجهة تدخل العسكريين في شؤون السلطة المدنية..
ويكونوا بالتالي عقبة كأداء في سبيل سيطرة الضباط الكاملة على الحكم والحزب معاً في
سورية.
لابد من التنويه
إلى لفت الانتباه إلى أن العسكريين ولأول مرة في تاريخ الحزب.. قد اشتركوا في مؤتمر
قومي وكونوا قوة خفية ضاغطة لا يستهان بها في سير أعمال المؤتمر ونتائجه. لهذا فإنهم
أدخلوا أسلوباً ونمطاً جديداً وغريباً في العمل الحزبي. فهم يناقشون، فيما بينهم، وخارج
المؤتمر، شتى القضايا المطروحة على بساط البحث، خاصة القضايا التي تخصهم بالدرجة الأولى.
وبعد أن يعبر كل ضابط منهم عن رأيه ووجهة نظره بحرية كاملة، تؤخذ القرارات، بأغلبية
الأصوات، وتلتزم الأقلية برأي الأكثرية. وعند حضورهم المؤتمر، فإنهم يدلون بأصواتهم
ويقفون موقفاً موحداً كتكتل واحد، بغض النظر عن رأيهم ووجهات نظرهم الشخصية. وهذا يعني،
بتعبير آخر، أن الضباط البعثيين السوريين كونوا عملياً حزباً خاصاً بهم داخل حزب البعث
السوري يخدم أغراضه وأجندته.
بعد أن تأكد
للجنة العسكرية أن هناك تأييداً قوياً للقيادة القومية من بعض العناصر المهمة، وخاصة
في القيادة العراقية، أمثال اللواء أحمد حسن البكر واللواء صالح مهدي عماش، لذلك رأى
أغلبية أعضاء اللجنة أنه من الضروري تعديل موقفهم العدائي للقيادة القومية والتخفيف
من تشجيعهم الضمني لتكتل السعدي. غير أنهم وجدوا أن حلقة الضعف في القيادة القومية
تكمن في شخص صلاح الدين البيطار فركزوا على مهاجمته. وبالفعل فقد أخفق البيطار في انتخابات
القيادة القومية الجديد التي شكلت على النحو التالي: (ميشيل عفلق أميناً عاماً، وأمين
الحافظ، وصلاح جديد، وحمودي الشوفي - سوريون - وعلي صالح السعدي، وحمدي عبد المجيد،
ومحسن الشيخ راضي، وأحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش - عراقيون - وجبران مجدلاني، وخالد
العلي - لبنانيان - ومنيف الرزاز وأسعد عكا - أردنيان. ولكن منصب الأمين العام الذي
عاد وشغله عفلق اعتبر في تلك الظروف منصباً (رمزياً). يقول ميشيل عفلق في هذا الخصوص:
(لم تكن لدي النية حتى قبل انعقاد المؤتمر القومي السادس في ترشيح نفسي لانتخابات القيادة
القومية، لأنني سأُستغل كستار لا أكثر).
لقد أكد المؤتمر
السادس عند مناقشة قضايا الحزب التنظيمية بشكل عام، على أهمية المحافظة على مبدأ القيادة
الجماعية والمركزية الديمقراطية. وحدد في نفس الوقت صلاحيات القيادة القطرية والقيادة
القومية وعلاقة كل منهما بالأخرى وبالحكم.
(فالقيادة
القطرية - طالما أن الحزب حاكم في القطر - هي التي تضع الخطط المرحلية التفصيلية وتشرف
على تنفيذها وتنفيذ البرامج التي تقرها القيادة القومية، وتكون هي المراقبة لتصرفات
الحكم، أي أن الحكم مسؤول أمامها). و(للقيادة القومية حق الإشراف والتوجيه على القيادة
القطرية ولها الرأي الأول على مستوى التخطيط العام وعلى مستوى التشريع والسياسة العليا.
أما في الأمور الأخرى فلا يجوز ذلك حتى لا تصبح القيادة القومية هي أيضاً قيادة القطر..).
وعليه فإن
ضعف القيادة القومية وعجزها وتركيبها المتناقض أدى إلى نتيجة جعل القيادة القطرية،
السلطة الفعلية والأولى في نظام البعث، ولها الكلمة الأولى في تسمية أعضاء المجلس الوطني
لقيادة الثورة وأعضاء الحكومة. كما أعلن المؤتمر القومي السادس في بيانه أنه: (أولى
عناية خاصة للتثقيف العقائدي الإيديولوجي في الجيش.. وأكد حق العناصر العسكرية في ممارسة
حقوقهم السياسية كاملة.. واعتبر المؤتمر دمج الطلائع الثورية العسكرية والمدنية دمجاً
عضوياً هو الوسيلة لخلق تفاعل إيديولوجي بينهما…).
نستنتج من
بيان المؤتمر القومي السادس رفض مبدأ إبعاد العسكريين عن الأمور السياسية، وصادق بالتالي
على تدخل الضباط رسمياً في الشؤون العامة. وهو شيء لم يكن إلا تثبيتاً لأمر واقع منذ
فترة زمنية طويلة. وأن توسيع صلاحيات القيادة القطرية خاصة في سورية، سيؤدي حتماً إلى
دفع وضع السلطة بين يدي الضباط وأعضاء اللجنة العسكرية.
لقد كان المؤتمر
القطري السادس مسرحاً لصراع مفتوح بين ما يسمى بالاتجاه اليساري المتطرف.. وبين ما
يسمى بالاتجاه القومي الذي يخوض المعركة من مواقع دفاعية. ولكن في الحقيقة.. فإن هذه
المجابهة تخفي صراعاً رهيباً من أجل الاستئثار بالحكم.. وهذا الصراع خاضه العسكريون
لحسابهم الخاص. والجميع كانوا يعتقدون أن المؤتمرات الحزبية غير قادرة على حل التناقض..
وأن الحل لا يمكن أ يأتي إلا بالتآمر.. لا من وراء ظهر الجماهير فحسب بل من وراء ظهر
القواعد الحزبية أيضاً. كانت مشكلة السلطة هي التي تشغل بال الطرفين. (وعلى هذا الأساس
فإن القيادة القومية التي انتخبت جاءت هجينة متناقضة.. حيث لعبت التكتكة في الكواليس
دوراً أساسياً في انتقاء أعضائها).
تمت في المؤتمر
الموافقة على التقرير العقائدي الذي قدمه ياسين الحافظ لذلك لابد لنا أن نلقي الضوء
على النقاط الرئيسية في هذا التقرير. وهو ينقسم إلى ثلاثة فصول كبيرة تتعلق بالوحدة
العربية والديمقراطية الشعبية والاشتراكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق