في نظرة متأنّية
ومتعمّقة في ثورة الكرامة السّورية خاصّة، وثورات الرّبيع العربيّ عامَّة، نرى
تاريخًا حديثًا يشترك في إنتاجه - كما هو الحال في علم التّاريخ - الشّعبُ المقهور
والمغلوب على أمره، والأنظمةُ التي تحكم هذه الشّعوب، والتي كانت نتاجًا لمرحلة
متأزِّمة من مراحل التّاريخ، استطاعت هذه الأنظمة القائمة أن تعمل على إقناع
شعوبها بأنّها كانت مرحلة تحريرٍ واستقلالٍ.
إنَّ الثّورة
السّوريّة، ومنذ يومها الأوّل أطلقت شعارات تتعلّق بكرامة الإنسان العربيّ والإسلاميّ
والعالميّ، فكانت ثورة الكرامة بامتياز، مّما يؤهّلها لأن تكون ثورةً عالميةً
بامتياز أيضًا، بمعزل عمَّا جرى، وما قدَّمته من تضحيات، وما تزال، ممّا يجعلها
ثورة العصر منفردة ووحيدة، حتى كانت يتيمة الدّهر، ومعجزة العصر.
لم يستطع
ممثلوا هذه الثّورة المتجّمعون في معارضة سياسيّة فاشلة، والمنعكسة في «المجلس
الوطني» في أوّل أمره، وفي شكله الجديد المتمثّل في «الائتلاف
الوطني السّوريّ» أن تقدّم شيئًا على صعيديّ السّياسة والميدان، وما تمّ
إنجازه إنّما حصل برغبة من الدّول والأطراف الفاعلة في الأزمة، وليس بإيعاز من
هذين الشّكلين المحبطين من أشكال التّمثيل السّياسيّ للثّورة السّوريّة؛ لأننّي
أعتقد أنّهما لا يملكان إلا أن يُقرَّا ما يُملى عليهما، شأنهما في ذلك شأن قرارات
السّياسة العربيّة من «المشرق» إلى «المغرب».
وفي ظلّ هذا
التّخاذل الكبير الذي نشهده من حكومات الشّعوب «العربيّة» و«الإسلاميّة»
التي تدِّعي أنّها من أصحاب الدّفاع عن الحقّ وأهله، ومن أنصار تحقيق العدل والرّفاهية،
نجد أنَّ الشّعوب التي تحكمها هذه الحكومات لا تكاد تتمتّع بأدنى حقٍّ، ولا ترى من
العدل إلا سيفَه المرسومَ في شعاره، أو مرفوعًا فوق رأسه عندما يصدح بكلمة الحقَّ
أمام هذه السّلاطين الجائرة.
ولا شكَّ أنَّ
هذا التّخاذل لم يكن لولا ارتباط هذه الحكومات ارتباطًا مصيريًا بمن وضعها، وهو
المتحكِّم في بقائها أو فنائها، وليس هناك من يخرج عن هذا الإطار، أو يحاول أن
يخرج عليه منذ مراحل التّحرير والاستقلال المزيَّفة.
تخاذل جعل من
ثورة الكرامة السّوريّة تمتدُّ على عامين من الزَّمن في سيول من دم الأبرياء الذين
لم يجدوا محيدًا عن الدّفاع عن العرض والأرض، والمال والولد، تخاذلٌ جعل من نظامٍ
منتج من إرادة غربيّة يدمِّر البيوت فوق رؤوس ساكنيها، ويهلك الحرث والنّسل في
سبيل استمراريّة نظام سلطويّ مسلوب أصلا.
وفي ظلّ
المواقف الدّولية والعربيّة من ثورة الكرامة السّوريّة المتخاذلة حينًا، والمتآمرة
حينًا، أصبح من الواجب أن تتنبَّه الشّعوب - الواقعة تحت استبداد حكوماتها - على مصيرها
القادم، وعلى ما يتهدَّد منطقة «الشّرق الأوسط» من تقسيم جديد، يدخل
جسم الدّولة الواحدة كما هو الحال المتوقّع عليه في سوريا، ولا أستبعد أن يكون جزءًا
منها في حضن بعض الدّول العربيّة إلى أجل مسمًّى بعد انتهاء المهمّة، وإنجاز
المصلحة، وتنفيذ الهدف.
إنَّ خطر التّقسيم
- الذي أراه قاب قوسين أو أدنى في منطقة «الشرق الأوسط» - لن يكون
إن تغيّرت مسارب الطّريق المرسومة عبر سنوات خلت من التّخطيط والدّراسة، تغييرٌ قد
تكون ثورة الكرامة السّوريّة سببًا رئيسيًا فيه، تحرفُ المخطّطَ عن طريقه، ويضلُّ
سبيله، وهو ما تسعى غالبية الأنظمة التي تدَّعي دعمها للثّورة السّوريّة إلى عدم
تحقيقه، بعدم انتصارها.
هذا يفسِّر
لنا كثيرًا من التّناقضات التي شهدناها وسنشهدها في مجريات الأحداث على المستوى
الإقليميّ خاصّة، والمستوى الدّولي عامَّة، ولم تكن تصريحات المسؤولين «الإسرائيليّين»
بإمكانية نشوب حرب إقليميّة في المنطقة تكون «إسرائيل» و«إيران»
طرفًا فيها إلا نتاجًا واضحًا لتراكمات كثيرة، منها:
أوّلا:
التّخاذل الواضح، والتّقاعس الكبير، والتّجاهل التّامّ للأنظمة العربيّة إزاء ما
يقوم به نظام الإجرام من إبادة ممنهجة بحقّ أهلنا، وتدمير ممنهجٍ أيضًا للبنى التّحتية
للدّولة السّوريّة، واقتصار هذه الأنظمة على تقديم المساعدات الإغاثيّة والإنسانيّة
لتخرج نفسها من المسؤوليّة الأخلاقيّة والأدبيّة أمام شعوبها، متناسية أنَّ حساسيّة
الموقف، وتطوّرات الأحداث تحتاج أكثر من ذلك بكثير، وأنًّ الموقف موقف تاريخيّ،
وتحوّل جذريّ في صلب الأمّة والشّعوب.
ثانيًا:
ارتباط غالب المعارضة السّياسيّة في هذه الدّول بأداة خارجيّة مؤثّرة وفاعلة فيها،
مّما يجعل من الصّعوبة ولادة أنظمة تكون لها استقلاليتها في اختيار سياستها بما
يخدم شعوبها، ومصالحها، فكانت معارضات عقيمة بامتياز لن تنجب مهما طال عمرها.
ثالثًا:
توجيه السّياسة العربيّة نحو فرعنة الأنظمة، واستعباد الشّعوب، والسّعي به إلى
أقصى درجات الذّلّ والإهانة، والانحطاط الفكريّ والأخلاقيّ، في محاولة للقضاء على
أيّ منافسة قد يُحدثها وعي مفاجئ، أو فكر مؤطّر، ومثل هذا السّلوك السّياسيّ دليل
على عمى في رأس النّظام المنفِّذ، وخبث في عقل المدبِّر، كما هو عليه الحال في عدد
من الدّول العربيّة.
إنَّ طريقًا
واضح المعالم تسير إليه منطقة «الشّرق الأوسط» ابتداء، ومنطقة «الخليج
العربيّ» انتهاء، يتمثَّل في تغيير «ديموغرافي» من أجل إعادة
هيكلة التّاريخ العربيّ المعاصر، بإسقاط أنظمة، وإبادة شعوب، وإنتاج شرذمة بديلة
لابتداء مرحلة تاريخيّة مشؤومة، تزيد من ذلّ الشّعوب واستعبادها، لذلك أرى أنّه من
الواجب؛ بل من الفريضة أن تتوحَّد أشكال المقاومة المناهضة لهذه السّياسات في خطّة
سياسيّة موحَّدة تجعل من المستحيل ممكنًا، ومن الواقع المرسوم ضربًا من الخيال،
ووهمًا وسرابًا يكذّب أصحابه وطالبيه.
د. محمد عناد سليمان
أكاديمي ومعارض سياسيّ سوري
12 / 3 / 2013م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق