يوم الخميس 21 مارس 2013 ختمت حياة
البوطي (اللغز!).
انتهت بئيسة مدمرة مأساوية عنيفة مغموسة
بالدم.
مع ذلك مات سيده الأسد الأب على عربة
حربية والناس تلطم!
أما الأسد الابن فلا أحد يرجم بالغيب.
ولكن ستكون دموية بوطوية غالبا.
وكلا أخذنا بذنبه.
كان التفجير في دار عبادة وبين صلاتي
المغرب والعشاء.
كنت أكرر كثيرا في نفسي أي لغز خلف
هذا الرجل ليقف بصلابة في تأييد نظام شرس دموي؟
أعترف أن طرفا منه واضح والأكثر غامض؟
رجل دين في خدمة نظام علماني! فقيه في جيب السلطة! لا جديد..
لا أظن أن الفقه التقليدي الذي حمله
الرجل يمكن أن يسبح به أكثر مما فعل؛ فهذه هي مهمة رجل الدين وفقيه السلطة.
إنها وظيفة مكررة منذ أيام فرعون بيبي
الثاني.
السحرة يقولوا أئن لنا لأجرا إن كنا
نحن الغالبين؟
فرعون يطمئنهم نعم وإنكم إذا لمن المقربين.
إنها فرحة الأتباع ورنين الذهب وإشعاع
النفوذ والجاه والزلفى.
وبئس العشير.
ليس هذا ما أريد الوصول إليه فهذا
واضح وموقف الرجل مع الأب والابن ثابت لا يتزعزع
يذكر بقصة جحا والثبات على المبدأ.
سألوه يوما كم عمرك ؟ قال ثلاثين سنة.
رجعوا إليه بعد ثلاثين سنة فسألوه من جديد يا جحا كم عمرك؟ قال ثلاثين سنة. تعجب القوم
من الجواب! قال جحا: الرجل عندنا رجل صاحب كلمة لا يغير كلامه قط.
ولقد بقي البوطي إلى آخر لحظة ثابتا
في موقفه لم يتغير مع النظام الأسدي كما في قصة جحا.
من أعلن عن مصرع البوطي الإذاعة السورية
وهي عادة مكررة من النظام مع مصرع من ترتب له المكان والزمان والتصوير. هي عادة للتخلص
من أناس وقعت القرعة على مصيرهم بعد أن خلص دورهم من المسرح. هي عادة للتخلص من أناس
أدوا دورهم وبقي عليهم الدور الأخير: الشهادة المزورة.
مع هذا فمصرع الكثير قد يبقى غامضا
إلى يوم القيامة؟ كيندي. حريق روما. حريق القاهرة. الحريري. مغنية. آصف شوكت ومجموعة
خلية الأزمة. واليوم البوطي. فمن يستطيع الوصول إلى الحقيقة وليس شيئا غير الحقيقة؟
إن كل الشروط في تحقيق حيادي يقترب
من المستحيل في ظل نظام عنكبوتي كالح مخيف.
لقد طلب الجعفري في الأمم المتحدة
لجنة لتحري الحقائق عن استخدام السلاح الكيماوي في سوريا.
يقول المثل ضربني وبكا وسبقني واشتكا.
إن نفس إبليس يمكن أن يتلقى دروسا
من مخابرات النظام الأسدي.
مع هذا علينا أن لا نفرح بمقتل أحد
حين أعلن منذ زمن بعيد (2005م) عن
مقتل غازي كنعان جاءت نعوة الرجل في 39 كلمة
قي الوقت الذي خدمهم 39 سنة..
وهي تعني سخف السياسة والسياسيين.
وهي تكرر نفس المأساة مع مصرع البوطي
فقيه السلطة.
قناعتي راسخة بالعدل الإلهي يوم تجد
كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء يود أن لو بينها وبينه أمدا بعيدا، وما
أحزن عليه عجز الثقافة العربية والأنظمة السياسية أن لا تحل المشاكل إلا بهذه الطريقة.
وهي تحكي عمق الأزمة البنيوية في العقل العربي الذي يعبد (القوة).
قد يكون الرجل فقيها رأى أن الخروج
على الحاكم مفسدة؟ قد يكون مستودع أسرار؟ قد يكون متعاملا على نحو خفي من رجال المخابرات
منذ زمن بعيد؟ قد يكون رجل أصابه الخرف والعته؟ وقد يكون كبشا يضحى به؟ قد يكون جحا
الذي لا يغير كلمته وموقفه؟ وقد يكون وقد يكون؛ فــ (قد يكون) كثيرة في حسابات السياسيين،
ولكن في ظل الموت تتهمش كل القضايا، وكما يقول الفلاسفة اثنان لا يمكن التحديق فيهما:
الموت والشمس. وكفى بالموت واعظاً.
إن البشر يغفلون عن حقيقة الموت حتى
يكشف الغطاء فبصرنا حديد، ونعيش حتى ننسى الموت ثم نصدم به فنخسر العزيز فنزلزل، وندرك
كم الحياة هشة رقيقة ضعيفة، وقتل الناس في الزمن الكوني عبث فكل الأموات يدلفون إلى
الأبدية في ومضة، والفرق بين موت القاتل والمقتول لحظة، وقتل الإنسان سهل، فقد خلق سريع العطب من صلصال
كالفخار، ولكن الثقافة الإجرامية تحرص على التعجيل بروح الناس قتلا وسفكا للدماء...
إن أعظم مسألة وجودية افتتحت بعد إعلان
خلق الإنسان اعتراض الملائكة على جدوى خلق الإنسان أنه يسفك الدماء.
إن من يتصور هذه النهاية الأسيفة للرجل
يحضره أنه لو له قال قائل: أن يا بوطي اعتبرها
فتنة وأغلق عليك بابك؟ سوف تنتهي حياتك على هذه الصورة، وعندك القدرة أن تبقى في بيتك
بدون منبر ومال ونفوذ وسلطة وأتباع مخدرين، وعيش لمعنى عظيم من السلام؟
أظن أنه كان سوف يتردد في موقفه ويقبل براحة البال
والتخلي عن كل هذا الزخرف الذي طوقه، فلم يحمل إلى الآخرة إلا ذنوب السياسة وعيوب مجتمعه.
أليس حزينا أن نفرح بموت الناس؟ أليس
أسيفا أن تنقل صورتنا إلى العالم الخارجي على صورة ناحر ومنحور ومنتحر ومنسوف وانتحاري؟
أي ثقافة مريضة نعيشها اليوم؟ فلا
نعرف حل مشاكلنا إلا بالقتل؟ أليس بالإمكان أن ندخل مرحلة القانون؛ فلا يقتل أحد أو
يدفع للهرب أو الانتحار بل (القضاء) الذي يفصل بين العباد.
إن الدماء تولد الدماء، والأحقاد تفجر
الأحقاد، والكراهيات تولد نظيرها، وليس مثل الحب قوة ناعمة قاهرة، والحب مشاركة ونمو،
والكراهية ارتداد على الذات وانتحار، كما في قصة الشمس والريح اللتان تبارتا في دفع
رجل ملتحف بمعطف أيهما أقوى، فكان الرجل يزيد
من إحكام ملابسه مع كل زمجرة ريح، حتى أرسلت الشمس خيوطها الذهبية الناعمة بالتدريج
فخلع ملابسه وذهب يستحم.
فلماذا غابت عنا ثقافة الحب والسلام مع أن القرآن
كله نشيد وقصيدة عن الحب ومعرفة الله واليوم الآخر.
في الواقع وأنا أكتب هذه الأسطر أشعر
بالحزن من أخبار تبث عن مصارع العباد في أرض العرب: انتحار وقتل وقطع رؤوس. المذيعة
اللبنانية تصبح بنصف جسم. الكاتب ينسف فيتناثر لحمه في الأفق، المغني تقتلع حنجرته.
الكاريكاتير تحطم أصابعه. البوطي يفجر به المسجد.
أما الأقوياء فإما قتلوا أو انتحروا،
فأي بؤس وظلمات يعيشها العرب هذه الأيام.
أليس بالإمكان أن نتعامل بالرحمة؟؟
هل نزعت الرحمة من قلوبنا فعدنا إلى الجاهلية الأولى؟؟ بل وتجند الآيات القرآنية في
تعميق الكراهية في الوقت الغلط للهدف الغلط في المكان الغلط للشخص الغلط كما جاء في
التحدي الأرسطي.
إن البوطي مسكين اغتالته يد الثقافة
المريضة على أي نحو، وهو وليد مجتمع الكراهية والفساد والحقد وعدم التسامح.
لماذا يقتل الزعبي قبل سنوات ثم يلحقه
كنعان والآن البوطي؟ لماذا لا نعرف حل المشاكل إلا بالقتل والنحر والانتحار؟؟ هل هذه
فلسفة بؤس ؟ هل هي قدر إلهي أم صناعة بشرية ونتاج ثقافي؟ إن أبشع ما في الخبر فرح عدد
غير قليل من الناس بالخبر في دلالة على وباء العنف والغدر والكراهية.
قال أحدهم لا أظن العمل انتحاري بل هو تنفيذ مخابراتي من درجة
أولى ولا قيمة لكل من يقتل معه! كما حصل في عيد الحب مع الحريري!
سواء قتلوه المخابرات أو أشباه المخابرات
فهو خبر سيء وحزين عن وضع العرب، وعمق الأزمة البنيوية في التركيبة السياسية في مربعات
العالم العربي من روح الغدر وعبادة القوة.
وخبر البوطي وكنعان والزعبي من قبل
والحريري ليس جديدا ووحيدا ففي كل بقعة من عالم العروبة حصل نفس الشيء من فلطاح في
العراق، وعامر في مصر، والعقاد في عمان، و أوفقير في المغرب، فالكل انتحر أو نسف ولا فرق كبير بين الأمرين.
أذكر جيدا في عام 2005م حين ماتت زوجتي
ليلى سعيد داعية اللاعنف وهي تفيض بالحب والسلام لكل الكائنات، فقامت ملائكة السماء
باستقبال روحها الطاهرة، ومات غازي كنعان وهو
من نفس مواليد العام 1942 فأصبح في دار الحق يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها. وتوفى
كل نفس ما كسبت، وهم لا يظلمون.
لحقهم إلى عالم الآخرة أيضا الحريري.
ومع كتابة هذه الأسطر فتحت أبواب الآخرة على نحو غير متوقع فمات عشرات الآلاف ونحن
شهود على زمن الموت.
قدم البوطي على ربه فهو سائله عما
قدم ولماذا وقف مع الأسد بهذه الضراوة؟ حينها سنكشف الغطاء عن السر الدفين والحقيقة.
هو سوف يدافع عن نفسه ولا شك، وسيقوم
له القتلى بالسؤال لماذا وقف هذا الموقف؟ هنا يشترك في قتل الناس الرصاصة والفتوى وموقف
السياسي.
الكثير سوف سيبكي على كل الرحلة السياسية
وسخافتها، وعبثية المنصب وعبادة المال والبطر والرئاء والنفوذ، كما جاء في كتاب المريض
الإنجليزي عن أولئك الرجال القساة الذين يرسمون خرائط البلاد ومصائر العباد. فهل يتعظ
يا ترى السياسيون؟
إن البوطي وغازي كنعان والحريري والزعبي
يحتاج إلى رحمة ربه الآن فلندعو له أن يتماسك للحساب فهو عبد من عباد الله، وشمس الله
تشرق على الأشرار والأخيار، وهو نتاج ثقافة مريضة إجرامية، لا تفهم وتتعامل إلا بمعادلة
من علاقات القوة بين المستكبرين والمستضعفين، ولو ولد في بافاريا في ألمانيا أو مونبولييه
في فرنسا لما انتهت حياته السياسية على هذه الصورة. فهذا قانون إنساني...
والبلد الطيب يخرج نباته والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.
كانت زوجتي تشهد فلم المسيح فقالت
لبناتها تأملوا هذه الفقرة والمسيح يخاطب الحواريين: "فليعرفكم العالم بحب بعضكم
البعض".
وقام عيسى بن مريم في ليلة العشاء
الرباني يغسل أقدام تلاميذه.. وقال الكبير فيكم صغير...ثم قسم الخبز والماء وقالوا
كلوا من هذا المائدة وكونوا شهداء بالحق في العالم.
وآخر سورة نزلت من القرآن كانت قصة العشاء الرباني
ربنا انزل علينا (مائدة) من السماء تكون عيدا لنا لأولنا وآخرنا.
رحمة الله على جميع عباده ومن دلف
إلى الأبدية هو في أمس الحاجة إلى رب وسعت رحمته كل شيء.
لنشعل شمعة الأمل في ظلمات القسوة
التي تشهدها الأرض السورية والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون.
أما الحكام القساة فيقولون ما أغنى
عني ماليه هلك عني سلطانيه.
ولكن من يسمع ومن يتعظ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق