قد
يكون غريباً أن أزعم أنني أقْدَم للناس صلة بين الأحياء بالعم الكريم والأخ الحبيب
الأستاذ أبي العز!! ذلك أن صلتي به تعود إلى أواخر الأربعينات من القرن الماضي،
لستُ في عمره يرحمه الله، والفارق كبير بيننا، لكن كان تجمعني به صلات عائلية ودودة،
وذكريات حميمة، ذلك أن والدَيْنا ـ رحمهما الله ـ كانا معاً في مدينة الرستن،
والده الأستاذ عز الدين كان مديراً للمدرسة الابتدائية فيها، ووالدي كان موظفاً في
مديرية ناحيتها، وكلاهما عليهما الرحمة والرضوان كانا يألفان ويُؤلَفان، شخصيتهما
الاجتماعية راقية، وروحهما الخفيفة متقاربة، ورغبتهما في الدعابة بارزة، ثم إنها
الغربة قد جمعت بينهما وشملت الأسرتين، والده غريب من حماة، ووالدي غريب من إدلب.
ومن
ذكريات طفولتي الجميلة التي لا أنساها أن والدي حين انتقل نهائياً من الرستن
متجهاً إلى إدلب عام 1946 ـ وكان لابد أن نمرَّ بحماة ـ نزلت أسرتنا بكاملها وعددها سبعة أنفار ضيوفاً
في بيت والده، ولا زلت أذكر حتى الآن ملامح والده، وطريقة سلامه و ترحيبه، كما
أذكر ملامح البيت الكريم، واستمرت الصلات العائلية الودودة بين أسرتينا ولا زالت رغم
تباعد الديار.
يعود
الفضل للأستاذ نعسان الذي جدَّد الصلات بين الأسرتين، فكان إذا زار حلب لابدَّ أن
يزور والدي الذي كان يعتبره في مقام عمه، إضافة إلى إحساسه بواجب الوفاء والبر
بأبيه، وهو خلق إسلامي أصيل. طالَبَنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أبر البر أن يصل الرجل ودَّ أبيه) أخرجه
أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
أول
مرة تعلق قلبي بالأستاذ نعسان حباً صادقاً ومودة حارة كان عام 1953 حين قدم
الأستاذ عدنان سعد الدين من حماة إلى حلب مصَحَحْين للامتحانات العامة، فقد كان
الأستاذ أبو العز مدرساً للتاريخ، والأستاذ أبو عامر مدرساً للغة العربية، نزلا
رحمهما الله في فندق بجادة الخندق والقريب من باب النصر، ولا زلت أذكر وقد كنت
طالباً في الثالث متوسط في الثانوية
الشرعية، أنني زرتهما في هذا الفندق، وطرحت على الأخ أبي عامر بعض الأسئلة
المتعلقة بالقضاء والقدر، أضيف إلى هذا أن والدي كلفني أن أرافق الأخ الأستاذ
نعسان في جولاته بأسواق حلب، القريبة من الجامع الأموي الكبير، وقد كان قمة في
الأناقة والوسامة واللطف والرقة.
زرته
في حماة مع الأخ الدكتور محب الدين أبو صالح رحمه الله تعالى حين كنا طالبين في
الجامعة عام 1957 شوقاً له ولأهنئه بزواجه من ابنة الأخ الأديب الكبير الأستاذ
محمد المجذوب رحمه الله تعالى، وأقام لنا حفل إفطار كبير.
ثم تجددت الصلات بيننا ثانية، حين كنت مدرساً في
إدلب عام 1960، حيث زارنا فيها بصفته مندوباً عن وزارة التربية والتعليم مشرفاً
عاماً على الامتحانات.
كان
الأستاذ نعسان أبو العز شخصية قيادية بارزة في حماة دعوياً وسياسياً واجتماعياً،
ففي عهد الانفصال أوائل الستينات من القرن الماضي، تقدم مرشحاً للانتخابات
النيابية مع الأستاذ مصطفى الصيرفي حفظه الله تعالى في قائمة منافسة لقائمة أكرم الحوراني الطاغية
الذي صاغ قانون الانتخاب، وضم الريف إلى المدينة، وزَّيف الانتخابات، واستعان
بالجيش لانجاح قائمته الانتخابية، وإسقاط الثانية، علماً أن الأصوات التي نالها
الأخوان الصيرفي والعرواني كانت الأعلى.
ويشاء
الله سبحانه أن يجمعني به في المدرسة اليوسفية في سجن كفر سوسة عام 1979 وفي مهجع
واحد، وعلى مائدة واحدة، وفي صلوات واحدة، ولمدة سنة كاملة، تجلَّت فيها أخلاق
الأخ أبي العز وسجاياه وصفاته النبيلة التي لم أر مثلها في مثل سنه وقدره، فقد كان
ابن خمس وخمسين سنة تقريباً، ولكنه رحمه الله تعالى كان أديباً خلوقاً صبوراً متواضعاً
لطيفاً ودوداً رقيقاً، مع الصغير والكبير، مع الشباب والشيوخ، كان قدوة في رعايته
لإخوانه وخدمتهم، وترتيب المهجع وتنظيفه، بل وإعداد الطعام!! كنا قرابة أربعين
سجيناً، ولكل سجين همومه ومخاوفه وقلقه على أهله وأولاده، فكان رحمه الله يستوعبهم
جميعاً بلطفه، وكلماته، وتوجيهاته، ووجهه
البشوش المشرق.
وإنك
لتعجب لمثل هذه الأخلاق ا لرضية، من مثل هذا الرجل، وقد تجاوز الخمسين يعيش في كِلْية
واحدة، مسؤولاً كبيراً في الإخوان المسلمين بحماة، من كبار المدرسين، ومديراً
لأكبر ثانوية في حماة (ثانوية الصديق) نافس في الانتخابات أخبث سياسي في سورية،
وأقواهم وأمكرهم، وأكثرهم نفوذاً... مع هذه الصفات... كان الرجل مثال التواضع
والأدب والخلق والرحمة والمودة لإخوانه، ولْنتصور كم كان يجهد لإعداد طعام أربعين
شخصاً، يأتي الطعام من إدارة السجن كأسوأ ما يكون، فيصلحه ويضيف إليه ما يحسِّنه ويعيد
طبخه.
كنا قد رتبنا مهاجعنا... أخ مسؤول عن الطبخ، وأخ
مسؤول عن ترتيب المهجع، وأخ مسؤول عن الحمامات، وأخ مسؤول عن النظافة، وأخ مسؤول
عن الأذان والصلاة، وأخ مسؤول عن الدروس، إضافة إلى الأخ المسؤول العام انتخاباً...
مما لفت نظر أحد السجانين فقال شاتماً: يخرب بيتكم يا إخوان مسلمين!! حوَّلتم
السجن إلى جامعة نظيفة منظمة، أذهب إلى مهاجع الشيوعيين فأشم روائح الدخان الكريهة
النتنة، وأرى القذارة والفوضى، وأسمع النزاعات والأصوات المرتفعة، والشتائم
المقذعة، والكفر بالله، ثم يقول: والله لقد شهيتموني أن أعتُقَل معكم؟!!
وإن
تعجب لأخلاق هذا الرجل القائد الفذ أبي العز، فاعجب له يوم صدر الأمر بالإفراج عنه،
فأبى الخروج إلا أن يُفرَج عن إخوانه من مدينة حماة، كان ذلك عام 1980 حين كانت
مفاوضاتي صحبة الأخ الأستاذ عبد الله الطنطاوي مع العِماد علي دوبا والعِماد حكمت
شهابي، بأمر من الطاغية حافظ أسد، إثر حواره مع الأخ الشهيد أمين يكن رحمه الله
تعالى، صدر الأمر بعدها بالإفراج عن عدد كبير من الإخوان بلغ عددهم 400 كان من
بينهم الأخ ابو العز، لكنه رفض إلا أن يُفرَج عن إخوانه في حماة، فلُبِّيت رغبته ـ
رحمه الله تعالى ـ.
افترقنا
بعض الوقت... ثم التقينا ثانية في دار الهجرة في المملكة العربية السعودية، هو يدِّرس في جامعة الإمام محمد بن سعود في المدينة
المنورة، وأنا أدرِّس في جدة في جامعة الملك عبد العزيز، وكنا نلتقي في أعمال
دعوية وتنظيمية منها لقاءات في مجلس القضاء التابع للجماعة، ونلتقي معاً كذلك في
مجلس الشورى في عمان أو في بغداد، كما التقيته أيضاً في المؤتمر العام الأول للجماعة
أوائل الثمانينات في القرن الماضي.
وفاتني
أن أذكر أنه كان نائبي في رئاسة مجلس الشورى الذي انتُخِب في الداخل عام 1978
والذي أعقبه سجننا سوياً عام 1979 وكان معظم أعضاء هذا المجلس معتقلين في هذا السجن،
فكنت أعقده في داخل السجن، ونمارس صلاحيات المجلس، ونرسل قراراته تهريباً إلى الأخ
المراقب العام الأستاذ عدنان سعد الدين رحمه الله تعالى.
وافترقنا
أيضاً ولبعض الوقت تنظيمياً هذه المرة وليس أخوياً ولا عاطفياً!! فقد اجتهد رحمه
الله تعالى أن يكون مع الإخوة في الطرف الثاني من الجماعة، واجتهدت أن أكون في
الطرف الشرعي، وتولينا نحن الاثنان رئاسة مجلس الشورى في كلا الجهتين، واستمرت
صلاتي الودية والأخوية مع الأستاذ أبي العز، فعملنا معاً على رأب الصدع، وتوحيد
الصف، وجمع الكلمة،حتى آذن الله بالاتفاق ـ وتوقيع وثيقة الوحدة والتي وقعتُها
بصفتي رئيساً لمجلس الشورى، ووقعها بصفته كذلك، كما وقعها الأخوان المراقبان
العامان السابقان الأخ الدكتور حسن الهويدي والأخ الأستاذ عدنان سعد الدين رحمهما
الله تعالى.
وهكذا
استأنفت الجماعة وحدتها من جديد و لا تزال بحمد الله تعالى، جماعة واحدة، وتنظيماً
واحداً، ونظاماً واحداً، وقيادة واحدة، ومؤسسات واحدة.
وأشهد
أن الأخ أبا العز كان حبيباً لجميع إخوانه، براً بجميع إخوانه، لطيفاً مع جميع
إخوانه، لم يفتر تنظيمه لخطة واحدة، خلال عمره المبارك الطويل، ومنذ أن انتسب
للجماعة في الأربعينات واجه جميع المحن بصبر ورضىً عن الله سبحانه.
لم
يتخلف فيما أعلم عن اجتماع، ولا عن واجب،
ولا عن مهمة، طيلة فترة عمله التنظيمي الطويل، ورغم شيخوخته، كان يسافر هنا وهناك،
ليلقى إخوانه في مجلس الشورى، بصفته عضواً دائماً فيه لكون قد سبق له أن شغل منصب
المراقب العام.
ورغم
شيخوخته أيضاً فقد كان حفياً بي رحمه الله تعالى، فكنت إذا زرت عمان لزمني بوده
ووفائه وأخوته، وكان يكرمني بسيارته وقيادته ليوصلني إلى مواعيدي، وليشتري لي
حاجاتي المعيشية.
وأخيراً
فإن كان لي من نقد عليه والإنسان ليس معصوماً عن الخطأ، فهو أنني حاولت أكثر من
مرة أن أستفيد من اختصاصه في التاريخ، و
قد كان مدرساً لهذه المادة سنوات طويلة، لكنه لم يجبني إلى طلبي المتكرر، رغم
وعوده، وقد كنت منذ الثمانينات في القرن
الماضي حريصاً على تدوين تاريخ الجماعة، وبصفتي كنت رئيساً لمجلس الشورى في هذه
الفترة شكلت لجنة برئاسته مع مجموعة من الإخوة المختصين لإنجاز هذه المهمة، فلم
أحصل على ما طلبت، وفي المهجر كذلك اقترحتُ على الأخ الدكتور فوزي حَمَد رئيس مجلس
الشورى يومها أن يتبنى المجلس اقتراحي بتشكيل لجنة لنفس الهدف، وصدرت موافقة
المجلس، فأنجز القرار، لكن بشكل محدود، وغير مستوفي، وصدر يومها كتيب صغير باسم
تاريخ الجماعة.
ورجوته
أن يكتب ذكرياته ومذكراته فهو بشخصه تاريخ، ومختص بالتاريخ، وجزء هام من تاريخ
الجماعة، لكنه رحمه الله تعالى قصر في ذلك، وأقول: فعلاً قد قصَّر!! لأن المعلومات
التاريخية ليست ملكاً لأصحابها، وإنما هي ملك الأجيال وحقها أن تطلع وتعرف الأخبار
والوقائع لتستخلص الدروس والعبر، وخاصة حين يكون تاريخ جماعة مسلمة ملتزمة راشدة،
تعرضت ولا تزال تتعرض لحملات إعلامية قذرة كاذبة، تهدف إلى تشويه تاريخ الجماعة،
وهو تاريخ مضيء بحمد الله تعالى، لكنه حقد الصليبية العالمية، ومكر الماسونية الخبيثة،
ومخطط الاستعمار البغيض، وخيانة العلمانية التابعة المنفذة لأجندة كل هؤلاء، هل من
المعقول أن يكتب أكرم الحوراني مذكراته في خمسة مجلدات يملؤها بالأكاذيب ويشوه
تاريخ سورية، ولا يكتب شيوخنا وقادتنا وأساتذتنا مذكراتهم!! والشكر كل الشكر
للأستاذين الجليلين العلامة الشيخ القرضاوي أمدَّ الله في عمره، والأستاذ عدنان
سعد الدين رحمه الله تعالى وقد أمتعونا بكتابة تاريخ الجماعة في مصر وسوريا، من
خلال مذكراتهم وذكرياتهم و معلوماتهم.
وإذن
فلتعذرني أيها القارئ الكريم إن أطلت في كتابة ترجمة الراحل الكريم والأخ الحبيب
الأستاذ أبي العز يرحمه الله تعالى لأنه تاريخ جماعة، وهذا واحد من روادها
وقادتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق