حقق المخرج السوري التسجيلي الراحل عمر أميرالاي (1944-2011) تسعة عشرة فيلماً
خلال رحلته الفنية (1970-2003) كان لكل واحد منها رسالة خاصة به، فوضع بذلك مع غيره
من الفنانين والمثقفين، كما ذكرت في مقال سابق، بذور ثورات الربيع العربي التي أتت
بعد حوالي عقد من الزمان. فيلم (الدجاج) الذي حققه عام 1977 سجل بعض الأساليب التي
تتبعها الأنظمة الشمولية في سبيل (تدجين) شعوبها واخضاعها.
حين
وصل الأسد الأب إلى السلطة في انقلابه العسكري عام 1970، عرف أن سيطرته على الشعب لن
تستمر طويلاً بأعمال مسرحية مثل حرب تشرين أو تخفيض أسعار بعض المواد الاستهلاكية أو
الزج برموز العصابة التي كانت تحكم قبل عصابته في السجن. فهو كان يعرف أن الشعب سيكتشف
بعد فترة قصيرة بأن وصوله إلى الحكم إنما كان لأنه منح الجولان لاسرائيل خلال حرب حزيران
1967 حين كان وزيراً للدفاع وأمر بالانسحاب الكيفي قبل وصول الجيش الاسرائيلي. وأيضاً
لأنه ضمن حفظ أمن وأمان الدولة العبرية وتصفية المقاومة الفلسطينية واخراجها من لبنان
فيما بعد، كما ساعد في عملية إخراجها من الأردن قبل ذلك. كما عرف أن الشعب سيكتشف قريباً
سياسته الطائفية وتهميشه للأغلبية السنية وباقي الفئات على حساب طائفته العلوية. ولذلك
فقد قرر، وكأي ديكتاتور آخر، أن أفضل طريقة لتدجين الشعب إنما تختصر في كلمتين (الافقار
والقمع)، مما يدفع المواطن لأن يعيش حياته هائماً على وجهه لتأمين قوته وقوت أسرته،
ولايفكر في محاسبة النظام خوفاً من بطشه ووحشيته. ومن عاش في سورية بعد وصول عائلة
الأسد إلى الحكم يعرف كيف تحولت مهد الحضارات إلى مدجنة كبيرة تملكها هذه العائلة وتحول
الشعب إلى الدجاج الذي يمكن أن يذبح في أي وقت ودون أي حساب.
في
فيلمه (الدجاج)، يضع عمر أميرالاي أهالي قرية (صدد)، ذات الأغلبية المسيحية في منطقة
القلمون، كنموذج لباقي أطياف الشعب السوري، إن كان من أهل المدن أو القرى. المهنة التقليدية
في القرية هي صناعة البسط على الأنوال اليدوية، والتي هي في طريقها إلى الانقراض بسبب
عدم اهتمام الجيل الجديد بتعلمها. مصدر الرزق الرئيسي الآخر هناك كانت الزراعة، ولكن
وبسبب الجفاف فقد انفض السكان عنها وبدؤا يفكرون بالهجرة الداخلية أو الخارجية. وطبعاً
فان سبب ذلك يعود كما سبق وذكرت إلى الاهمال المتقصد للدولة أصلاً بالشعب، فبدلاً من
أن تقوم الدولة بمهامها بتأمين مياه الري أو إنشاء معامل أو مشاريع إنمائية أو تدريب
مهني لهذه القرية العريقة، تجاهلتها وتركت السكان بدلاً من ذلك يفكرون بالهجرة. ولكن
لما بدأ بعضهم بتربية الدجاج بغرض الربح والتجارة ونجحوا بذلك، تبعهم الكثيرون وخاضوا
نفس التجربة. ولكن سرعان ماواجهوا مشكلة لم تكن بالحسبان، فارتفعت أسعار العلف وواجهوا
منافسة قوية بأسعار منتجات الدجاج من مربين لبنان وأيضاً من قبل المربين المحليين الأكبر
حجماً بسبب إمكانهم البيع بأرباح أقل ولكن بكميات أكبر.
قد
يسأل سائل هنا: وماذنب الدولة في ذلك؟ من واجب الدولة المهتمة بشؤون شعبها أن تحميه
وتساعده، فهي يمكن أن تساعده بتوفير العلف بأسعار مشجعة، وكذلك بتوفير العناية الصحية
البيطرية وأيضاً وسائل التسويق، ويمكن أن تحميه بوضع قيود على المستوردات أو منعها
طالما هناك بضاعة وطنية. ولكن وفي غياب تلك الجهود والخدمات التي على أي حكومة أن تقدمها
لمواطنيها، فقد عاد سكان (صدد) إلى التفكير بالعودة إلى الزراعة أو إلى التفكير بالهجرة.
ويسجل لنا عمر في فيلمه هذا، وكما اعتاد في بقية أفلامه، صورة مخيفة عن بدائية الحياة
اليومية في تلك القرية، والتي تجلت قبل ذلك أيضاً في فيلمه (الحياة اليومية في قرية
سورية) عام 1974، فيخيل للمشاهد أنه يتابع حياة قرية في حقبة القرون الوسطى، وليس في
نهاية القرن العشرين وبعد وصول الانسان إلى القمر. وقد استعان لخلق ذلك الجو بتوظيف
تقنية التصوير بالأبيض والأسود وبالتصوير القريب لوجوه العجائز وإظهار التشققات التي
تركها عليها الزمان. كما استعان ببعض الأهازيج الشعبية المغرقة بالبساطة التي يرددها
الناس، وأيضاً ببعض أغاني الموسيقار محمد عبد الوهاب، ليؤكد أن الشعب السوري قد توقف
عنده الزمان وأن سورية قد تحولت في ظل النظام الحاكم إلى متحف للتراث والأنتيكة والحياة
في الماضي من جهة، وللفقر والمعاناة والتخلف من جهة ثانية. الشي الوحيد الذي لم يبخل
به هذا النظام على الشعب هو إتخامه بالشعارات الوطنية والقومية وبصور القائد المفدى
وأقواله المأثورة وأسرته المقدسة. ورسالة الفيلم أن نظام الأسد يقول لشعبه باسلوب غير
مباشر، أن ليس لجيل الشباب في سورية فرصة للحياة الكريمة إلا بالهجرة، أما من يقرر
أن يبقى في البلد، فعليه أن يكون مستعداً لأن يعامل كالدجاج.
لاأعرف
إذا كان اختيار قرية (صدد) ذات الأغلبية المسيحية لتصوير الفيلم مقصوداً أو مجرد صدفة،
ولكن ذلك لاشك يكذب إدعاء نظام الأسد ومؤيديه بأنه الحامي والضامن لحقوق ومصالح الأقليات.
إذا كان هذا النظام حامياً وضامناً لمصالح أحد فهي لمصالحه ومصالح النخبة التي تدعمه
من كافة الطوائف عموماً ومن طائفته العلوية خصوصاً، وكذلك لمصالح وأمن وأمان الجارة
العزيزة اللدودة. إن السياسة الواضحة لهذا النظام هي إغراق كافة فئات الشعب بالجهل
والتخلف، وأيضاً بالفقر والفساد، ليسهل عليه تدجينه وإبقائه بلا إرادة ولاصوت. وفي
الواقع فان هذا ينطبق أيضاً على غالبية أفراد طائفته، مع الفارق أنه يبقي تلك الأغلبية
متخلفة وفقيرة ليسهل عليه تجنيدها في الجيش والأمن لتدافع عنه وقت الحاجة، فمن يؤمن
أنه إنما يدافع عن ربه (الرئيس)، فيمكن إقناعه أن يفعل أي شئ. انظر في عيني الدجاج،
أو أي حيوان مدجن آخر، وراقب تصرفاته وحركاته وردود أفعاله، فحتماً لن تجد أي شي يدل
على الذكاء، لن تجد سوى مايدل على الخوف ولكن أيضاً على الرضا بأنه إنما يعيش ليأكل
ويشرب ويتكاثر وينام، وأن المحظوظ منه هو من لايذبح اليوم، بل يعيش لواجه مصيره المحتوم
في يوم آخر.
لاشك
أن نظام الأسد، في عهد الأب ثم الابن، كان مجرماً في عملية تدجينه للشعب السوري على
مدى أربعة عقود، وذبحه كلما دعت الحاجة. ولهذا كان عمر أميرالاي في فيلم (الدجاج) كما
عهدناه دائماً، قاسياً ولكن بارعاً في نفس الوقت، في تسجيله لتلك العلاقة المخيفة التي
تربط بين الذابح والمذبوح.
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب وابن شقيقة
الفقيد
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 2 ربيع الثاني 1435، 3 شباط،
فيبروري 2014
هيوستن/تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق