يُطلق
العامَّة وبعض الخاصَّة لفظ «الضَّلال» في غالب الأحيان على مَن
ابتعد عن الدِّين، ويجعلون من ذلك اللفظ وصفًا ملازمًا له ما دام على هذه الحال، وكأنَّ
«الضَّلال» لم يوضَع إلا لهذا الوصف، وهذا المعنى، فأصبح مقيَّدًا
في الاستعمال على هذا الوجه خاصَّة.
إلا إنَّ
المتتبِّع لمعنى هذا اللَّفظ يجد أنَّ الأمر على غير ما استعملوه فيه، سواء أكان
من ناحية «اللُّغة» أم من ناحية «الاصطلاح». فمن حيث
جانبه اللُّغويّ فقد ذكر أهل اللُّغة لـ«لضلال» أكثر من معنى،
فأوردوا من معانيه: «العدول عن الطَّريق المستقيم»، و«النِّسيان»،
و«الهلاك»، و«الغياب»، و«الموت»، و«الباطل».
وفي محاولة
لعرض هذه المعاني واستقرائها في القرآن الكريم، سنرى أنَّه قد اشتمل عليها جميعًا،
ولم يختصَّ بمعنى واحد منها، أو يقتصر على بعضها دون الآخر.
أوَّلا:
العدول عن الطرَّيق المستقيم، الذي هو طريق الحقِّ بالضَّرورة، لقوله تعالى: {اهدِنَــــا
الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }الفاتحة6، وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ}الصافات118، ولا شكَّ أنَّ هداية الله سبحانه وتعالى، وطلب العبد
لهذه الهداية دلالة قاطعة على أنَّه الحقُّ المبين.
ومن أدلَّة «الضَّلال»
التي جاءت بمعنى «العدول عن الطَّريق» القويم قوله تعالى: {قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى
فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا
أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ}يونس108، وقوله أيضًا: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا
يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء15،
وقوله تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ}النمل92.
ثانيًا:
النّسيان أو السَّهو: ورد هذا المعنى في القرآن الكريم، وجاء بتقاليب مختلفة من
جذر «الضَّلال»، ولعلَّ من أوضح هذه المعاني قوله تعالى: {
وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ
إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} البقرة282، وقال الرَّاغب
الأصفهاني: وذلك من النِّسيان الموضوع في الإنسان. ونظيره قوله تعالى على لسان
موسى عليه السَّلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}الشعراء20.
ثالثًا: الغياب:
وقد يستعمل مجازًا بمعنى الموت، كقول المخبَّل:
أضلَّتْ بنو قيسٍ بن سعْدٍ عميدَهَا
|
|
وفارسَهَا في الدَّهر قيس بنَ عاصمِ
|
وقول
النَّابغة يرثي النُّعمان بن الحارث الغسَّاني:
فإنْ تحْيَ لا أملكُ حياتي، وإن
تمُتْ
|
|
فما في حياةٍ بعد موتِكَ طائِلُ
|
فآبَ مُضلُّوه بعيْن جليَّةٍ
|
|
وغُودِرَ بالجوْلانِ حَزْمٌ ونَائِلُ
|
أي: عاد
دافنوه حين مات. وعين جليَّة: أي خبر صادقٌ أنَّه مات. والجَوْلان: موضع معروف لدى
أهل الشَّام، وهو الموضع الذي دُفنَ فيه النُّعمان.
ومن الدّلائل
التي نصَّ عليها القرآن الكريم في هذا المعنى قوله تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ
رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}طه52، أي: لا يغيب عنه شيء،
ولا يفوته شيء سبحانه وتعالى.
وقوله أيضًا
بمعنى الموت: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُون}السّجدة10، ولا شكَّ أنَّ سياق
الآية يدلُّ صراحةً على أنَّ المراد بـ«الضَّلال» الموت.
ومن معاني
الغياب، ذهاب الحقيقة عن صاحبها، وعدم إدراكه لها، ومن ذلك قول الشَّاعر:
وتظنُّ سَلْمَى أنَّني أبْغِي بِهَا
|
|
بدلاً، أراها في الضَّلال تَهيْمُ
|
أي: غير عالمة
بحقيقة حبِّه ورغبته بها. وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم أيضًا، كقوله
تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً
مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}آل
عمران164، ويؤيِّده في موضع آخر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُّبِينٍ}الجمعة2.
ومنه قوله
تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا
وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}يوسف8، فليس المراد
الضَّلال في الدِّين، إذ لو كان مقصودًا لكانوا كفَّارًا، وهو بخلاف المراد،
ويؤيِّده قوله تعالى: {قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ}يوسف95.
ونظيره قوله
تعالى بحقِّ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى}الضّحى7،
أي: لستَ عالمًا بهذه العلوم التي لا تعرفها إلا عن طريق الوحي، ولا يُراد قطعًا
كما أشرنا «الضَّلال» في الدِّين.
رابعًا:
الهلاك: وقع هذا المعنى في القرآن الكريم في غير ما موضع، فمنه قوله تعالى: {فَقَالُوا
أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ}القمر24،
وقوله أيضًا في موضع آخر: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ}القمر47.
د. محمد عناد
سليمان
3 / 3 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق