الأصل في
المثقفين، أنهم بناة الحياة، ومشيدوا أسوارها الحصينة، وهم حجر الزاوية في
صناعتها، وعليهم المعول، في أداء المهمة الملقاة على عاتقهم، ومنها أن يكونوا مرآة
تعكس هموم الناس، يعبرون عنها بطرائقهم المعروفة، من خلال التوجيه المباشر، الذي
يكون بأسلوب من أساليبه المعروفة، أو بنمط غير مباشر، مما هو معلوم فنه كذلك، المهم
أن يعبر عن ذلك، ولا يكون فكره حبيس ذهنه، يستمتع به بمفرده، ويحقق بهذا لذة
المعرفة المجردة، التي تكون خاملة، لا تلد ولا تتكاثر، بل ليس لها لون ولا طعم ولا
رائحة.
ومما لا
شك فيه، أن هذا الأمر، أي التعبير عن الواقع نقداً، يدخل في عالم النصيحة، وفي
الحديث الصحيح : ( الدين النصيحة ).
تارة
بكتاب يؤلف، وأحياناً بمقالة تسطر، أو برسالة تبعث، إلى من يهمه الأمر، وفي بعض
الحالات بكلمة تلقى، أو خطبة يصدع فيها بالحق، وربما عبر بعضهم عن هموم الناس
بقصيدة شنفت الآذان، أو قصة أو رواية أو مسرحية، وقد تكون بقالب من قوالب الفنون
الجميلة، من خلال أنشودة هادفة، على سبيل المثال.
المهم،
أن المثقف لم يخرس، ولم ينضم إلى قوافل الصامتين، وبهذا يصبح صورة أخرى من صور
التضييع للحقوق، والتفريط بها، ووجهاً آخر للطاغوت، وللظالم، والمعتدي على الحقوق،
والمفرط بمصائر الشعوب.
ولا أريد
أن أدخل في تفاصيل ما يروى عن النبي – عليه الصلاة والسلام- ( الساكت عن الحق
شيطان أخرس)، حتى لا يعاجلني من له إلمام بعلم الحديث، ليقول لي: إن الحديث، لم
يثبت عنه عليه الصلاة والسلام، وحتى لا يدخل على الخط، من فهم النص بوجه من وجوهه،
ليكون فقه النطق والسكوت، أكبر من أن يحصر بهذا المعنى.
ولكن
الذي لا يمكن النقاش فيه، بحال من الأحوال، أنه لا يجوز للعلماء والمفكرين
والمثقفين، أن يتخلوا عن واجبهم في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصح،
والبيان، وتوضيح الحقائق، من خلال العيش مع الناس، بفقه الواقع، وبفقه النفس، كما
كان يعبر عن هذا بعض الأقدمين.
ومن
يتخلى عن هذا الواجب، يكون من ( الخرس) الذين كتموا ولم يبينوا، وجبنوا ولم
يوضحوا، وآثروا السلامة، في وقت الفداء، ولم يلتزموا قولة الحق، في ساعة محنة،
والأمة متى ما هابت أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تودع منها، لأن الحياة – مع وجود
هذا الوصف – تصبح جحيماً لا يطاق، وكارثة لا تحتمل، وبالمقابل تشرق الدنيا، برجل
قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه ووعظه، فقتله، وبهذا العمل النبيل، صار سيد
الشهداء، تبصرة وذكرى.
(2)
المثقفون،
بما لهم من أثر، يجب أن يكون الواحد منهم، مسكون الهم، في حمل أمانة الوقوف إلى
جانب المظلومين والمقهورين، وما أكثرهم في عالم اليوم.
فإن لم
يفعلوا، فقد ارتكبوا فعلاً شنيعاً، وكانوا بهذا أدوات سوء، تنادي على نفسها
بالضياع، بأي صورة من صوره، أو عنوان من عناوينه المعروفة، التي قوامها التبرير،
واختلاق المعاذير، ضحكاً على النفس، وخداعاً لها، هروباً من الاستحقاق الواجب، ومن
كلفته باهضة الثمن أحياناً.
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
وهنا
يكون التمايز، وتظهر المعادن، وينكشف الثوريون من اليسار واليمين، ويظهرون على
حقيقتهم.
(3)
والسلطات
الدكتاتورية الظالمة، تعمل على صناعة منظومة السكوت، فتنسج خيوط فتنتها على عينها،
وترعاها حتى تولد منها، مجموعات الصمت القاتل، الذي يخلط الأوراق، ويلف الموقف
بورق حزن، ربما ينشر في غير زمانه، وربما يذاع في غير مكانه، وهنا تكون الطامة.
يقول
جيفارا: ( المثقف الذي يلوذ بالصمت، أكثر خراباً من النظام الدكتاتوري والقمعي،
الذي يمارس القتل ضد أبناء شعبه ).
لذا فإن
المرء تأخذه الدهشة بكل أوزانها، وبأثقالها كافة، وهو يرقب مشهد الصامتين من
المثقفين، وقد حل الويل، ووقع الضيم، وعلق الأحرار على أعمدة المشانق، وجلد
المفكرون، وقتل العلماء، وأريقت الدماء، وحبست الأنفاس، وعمل المجرمون على إفساد
الحياة.
إن جدلية
العلاقة بين المثقف والسياسي، ينبغي أن تكون بين حدين:
-
حد البيان: وقول ما لا بد من قوله، لا يخشى قائله، في الله لومة
لائم،
بصمود أمام الإغراء، وبثبات إذا تعرض للإيذاء.
-
وحد الحكمة: التي لا يجوز أن تتخذ ذريعة، لتعطيل الواجب
في حده الأول، والجامع بينهما، تمام البيان، مع كمال الحكمة.
وأي فقدان لواحد منهما، يحدث اختلال الميزان، وتكون
المصائب، وانسحابات العدوان.
أما أبواق السلطة، من المثقفين، فهؤلاء لهم كلام آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق