في سورة آل عمران نداء لأهل الكتاب قبل نداء
المؤمنين، فعلى أهل
الكتاب إذا جاءهم رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام أن يتبعوه
يتجلى هذا النداء في ثماني آيات تدعو أولاها إلى
توحيد الله تعالى وعبادته وحده ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64).
وفي ثانيها ردّ على مزاعم أهل الكتاب من النصارى
واليهود إذ يدّعي كل من الفريقين أن إبراهيم عليه السلام كان منه،وإبراهيم عليه
السلام كان قبل موسى عليه السلام بألف وسنة وجاء عيسى عليه السلام بعد موسى بألف
سنة ، فكيف يكون إبراهيم يهوديا أو نصرانياً ؟ ما يقول بهذا عاقل:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا
مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (65)
وفي ثالثها يعيب على أهل
الكتاب كفرهم وهم يشهدون الحق في كتبهم فيعرضون عنه :
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
وفي رابعها تراهم يخلطون
بين الحق والباطل ليفسدوا الأمور ويكتموا الحقيقة التي يعلمونها ضمناً فياتي
النداء يتبعه الاستفهام يقرّعهم ويؤنبهم:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(71)
ويوبخهم المولى تعالى في
خامسها على كفرهم بآيات الله وتكذيبها ، دون أن يكترثوا بمتابعة الله تعالى لهم
وإحصائه ما يفعملون، فالله تعالى يعلم كل صغيرة وكبيرة مما يعملون:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ (98)
وتراهم في آخر نداء أهل
الكتاب يصدون الناس عن الإيمان بالله ورسوله ، ويحبذون حياة الغي والفساد على
الرغم أن كتبهم تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الرسل الذي بشرت به
رسلهم.
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ
شُهَدَاءُ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
ثم ينتقل القرآن الكريم
إلى تنبيه المسلمين إلى وجوب التمسك بدينهم وعدم طاعة المشركين من اليهود والنصارى
كي لا يرتدوا كفاراً مثلهم ، فالطاعة عبادة ، ومن أطاع غير الله ورسوله انحرف عن
طريق الهداية وعبَدَ الطاغوت:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ (100)
قد يتساءل بعضنا : فينا
كتاب الله نغترف من معينه ونعمل بهديه ونعيش بنوره ، لكنْ كيف يكون رسول الله فينا
وقد انتقل إلى ربه منذ قرون طويلة ؟ والجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيننا في سيرته المطهرة وحديثه العطر المدوّن حتى صار أحدُنا يعرف عن نبيّه دقائق
حياته الشريفة اكثر بآلاف المرات مِمّا يعرف عن أبيه الذي عايشه وصاحبه ، إنه معنا
بما تعلمْنا من أحواله التي أوصلها إلينا صحابتُه الكرام، نتابعه في سلمه وجهاده
،صباه وشبابه وكهولته ، طعامِه وشرابه، ليلِه ونهاره،مع ضيوفه وآل بيته ، وكأننا
نراه صلى الله عليه وسلم بيننا:
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ
تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(101)
روى البخاري عن مُرَّة عن عبد الله قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( حق تقاته أن يطاع فلا يُعصى وأن يُذكر فلا يُنسى وأن
يُشكر فلا يُكفر . وقال ابن عباس : ألا يعصى طرفة عين . وذكر المفسرون أنه لما
نزلت هذه الآية : (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (102)قالوا : يا رسول الله , من يقوى
على هذا ؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل : " فاتقوا الله ما استطعتم " [
التغابن : 16 ] ، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
هل
يجوز أن يركن المسلم إلى الكفار؟ . والجواب أن : لا ، فلماذا؟ يقول الله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:
1-
(لَا تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ، )فالكفار والمنافقون لسنا منهم وليسوا منّا ،إنهم
أصحاب أهواء وفساد دينيّ وخُلُقيّ، إن الطيور على أشكالها تقع ، قال الشاعر :
عن المرء لاتسل وسل عن قرينه,,,,, فكل قرين بالمُقارن يقتدي
والمرء على دين خليله ، فلينظر أحدُكم من يخالل: هذا ما علّمَناه النبيُّ
عليه الصلاة والسلام.
2-
(لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ) والخبال
الفساد، فهم إن لم يستطيعوا قتال المسلمين اجتهدوا في المكر والخديعة .
جاء عمرَ كتابٌ فقال لأبي موسى : أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ فقال :
إنه لا يدخل المسجد . فقال لم ! أجنب هو ؟ قال : إنه نصراني ; فانتهره وقال : لا تُدنِهم
وقد أقصاهم الله , ولا تكرمهم وقد أهانهم الله , ولا تأمنْهم وقد خوَّنَهُمُ الله ...
3-
(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قد بدت البغضاء من
افواههم ،) ، وهم يحبون أن يروا المسلمين في ضنك وحزن وألم وحياة تعيسة كما يفعلون
الآن في دعم النظام الاسدي الكافر بالمال والسلاح والرجال ،وهم بعملهم هذا مكشوفون
وإن كانوا يُظهرون غير ذلك ، ويسعَون بكل ما يستطيعون لإرهاق المسلمين ،وكثيراً ما
ينِدّ عنهم زلة لسان أو عمل فاضح أو تصرّف شائن.
4-
( وما
تخفي صدورُهم أكبر) ولئن ظهر منهم بعض ما يُكِنّون من كره وبغضاء للمسلمين فإن ما
يُخفونه أكبرُ مما يُظهرونه.
ويُذيّل القرآنُ هذه الاية
محذّراً ومعلماً (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ
ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) فمن كان له قلب حيٌّ
وفكرٌ سديد علم أنّ الحذر من غير المسلمين نجاة وحرز منهم.
-
ثم تأتي هاتان الآيتان:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا
خَاسِرِينَ (149)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) توضحان أن طاعة الكافرين تؤدّي إلى
النكوص إلى الكفر، وما بعد الكفر إلا الخسارة الأبدية في الجحيم.
يحب المنافقون الحياة أيّاً
كانت : ذليلة وعاديّة ويكرهون الموت ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم المقرئين
إلى بئر معونة فقتلهم المشركون غيلة ادّعى المنافقون أنّ هؤلاء الشهداء لو حذروا
فلم يخرجوا ما ماتوا. وبهذا ينكشف سترهم وتظهر دخيلتُهم ويبقى كلامهم حسرة في
صدورهم في الدنيا إذ انكشفوا وفي الآخرة إذ هم من أهل النار ، ولو علموا أن لكل أجل
كتاباً ما قالوا كلمتهم هذه . إن كل شيء بيد الله سبحانه فهو المحيي وهو المميت
وهو الذي يعلم ما في الصدور فيثيب الصالح ويعاقب المسيء:
(يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا
ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا
قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
ونرى نداء لا علاقة له
ظاهرة بالجهاد والمجاهدة - يتحدث عن جريمة أكل الربا يتخلل- الايات الصريحة في حال
المسلمين في غزوة أحد :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
فإذا علمنا أن عاقبة الربا
حربٌ من الله ورسوله وجدنا المنحى العام – وهو الجهاد – يشمل الاية، وكان وجودها متسقاً مع الآيات الأخرى في الحذر
من الوقوع في الخطأ الذي يغضب المولى سبحانه.
ويختم الله سبحانه وتعالى
سورة آل عمران بوصية النجاحين ( نجاح الدنيا ونجاح الاخرة )فحض على الصبر على
الطاعات والبعد عن الشهوات ، وأمر بمصابرة الأعداء وانتظار الفرج من الله
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(200)
فما بعد الصبر إلا الفرج ،
وما بعد مقارعة الأعداء بثبات إلا النصر والفوز ، والرباط في الثغور في سبيل الله
والجهاد ذروة سنام الإسلام ، وأهل سورية اليوم في رباط أمام الأعداء الذين لا
يألون جهداً في اغتنام غفلة من المسلمين يدمّرون فيها بيوتهم ويقتلون رجالهم
ونساءهم وأطفالهم ، إنها حرب إبادة يُطلب فيها المصابرة والرباط ، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : (
رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله
وأجري عليه رزقه وأمِن الفتان )
كما أن
ملاك الأمر كله التقوى ، ففيها الفلاح كله والنجاة أجمعها.
... إنه سبحانه ينادينا ، فهل سمعنا النداء؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق