الرفيق أحمد أبو صالح يروي لنا في
شهادته الأخيرة ما كان يجري في السجون في عهد حكم البعث من تعذيب وحشي وتحطيم
لإنسانية الإنسان فيها، والتي لم يستثنى فيها حتى الرفاق الذين كانوا في سدة الحكم
يوماً ما، فكما يتساوى في جهنم الطغاة كذلك كان الحال الرفاق في سجون البعث!!
أحمد منصور: قبض عليك أنت بعد
ثورة العراق اللي قامت في 18 لـ31 تموز 68، قبض عليك وعذبت، كيف كان.. كيف ما
تعرضت له في السجن من تعذيب ؟ أغسطس/آب 68 قبض عليك.
أحمد أبو صالح: يا سيدي، التعذيب
في السجون السورية الآن أعتقد أنه أشد من ذي قبل، ومع ذلك عندما اعتقلت أنا وأدخلت
غرفة فيها أشخاص باعرف جلهم منهم العقيد محمود الحاج محمود اللي قلت لك عضو مجلس
قيادة الثورة وكان مسؤول مخابرات، أنا لم أعرفه عندما دخلت لأن شعره أصبح شائبا
أكثر من شعري، الآن، وشفت على أنه فيه قطن يعني قطع صغيرة ظننتها أسنانه لأنه كان
تمه مطبق، قال لي واحد من الموجودين، قال لي أبو طموح ما عرفت أبو الحاجي ؟ مين
أبو الحاجي، قال لي العقيد محمود، الحاج محمود ؟ قال نعم، جيت هنا انتقلت لجنبه
أبو الحاجي مرحبا ما جاوب، رجعت لمحمود نصير هذا اللي. قال لي ما بيسمع علي صوتك،
عليت صوتي، أبو الحاجي شو قصتك ؟ قلعوا لك أسنانك ؟ ظنيت أنا، أجبني بجملة واحدة
وقال لي يا أبو طموح اعترف وإلا مصيرك مثل مصيري، هذا محمود الحاج محمود، وفيه آخرين
طبعا وفيه جاسوس عليهم حاطين له العنب والفواكه و.. ضابط أيضا رتبوا له أمره
يبعتوه على الملحق العسكري مثل شو واعترف بعدين..
أحمد منصور: أنت كيف عذبوك ؟ قل
لي بقى أشكال التعذيب اللي صارت ؟
أحمد أبو صالح: يا سيدي، أول
وسائلهم اللي استخدموها معي واستخدموا أمر وأدهى وأقسى منها مع غيري، أنا استخدموا
معي الدولاب.
أحمد منصور: أيه الدولاب دا ؟
أحمد أبو صالح: بيحطو الإنسان
بيحطو له ساقينه داخله، داخل الدولاب وبيدخلوا له رأسه أيضا، دولاب سيارة
(كاوتشوك) وبيتركوه، طبعا أشلون بيتخدر جسمه كله لأن الدم ما بيعود بيسري يصل إلى
الأطراف من تحت وللرأس وإلى آخره، ومع ذلك بيدحرجوا الدولاب وبيجلدوا الشخص اللي
داخل الدولاب، بيجلدوه بقسوة وعنف، يعني بكابلات داخلها.. داخل الكابل الكاوتشوك
فيه سلك فولاذي معقوف بحوالي طول 6,5 ميليمتر هذا في كل مرة بيخترق الجسم في 6,5
ميليمتر بعدين بيربطوا أحاليل السجناء بأسرة من حديد، وبيطلبوا منهم يجروها
وبيعزفوا مثل زي واحد بيعزف على وتر عود بيعزفوا، وبعدين بيحطوا الدولاب برقبة
السجين وبيخلوه يهرول وفي كل مرة، في كل شوط بيضيفوا شي كيلو جرام بيظل بيهرول، وعم
بيزيد بالدولاب، بيحطوها.. وفي مقدوره يصمد هوه والدولاب، بيسقط، بيزدادوا ضرب
فيه.. في جسمه، وحتى يسقط يصير بحالة غيبوبة، ممكن يرجعوه يزتوه بالزنزانة، بعد ما
يزتوه الزنزانة بيحسوا أنه صحي، إنه في طاقة، بيجيبوا له ورقة وقلم ناشف، وبيقولوا
له أكتب مذ.. مثلا.. أصبحت برات الحكم، أو مذ من سنة كذا حتى اليوم شو صار معاك،
يا أخي حدد لي، ما فيه تحديد، دا تكتب كل شيء، كتبت إنه زارني أحمد منصور، جابوا
أحمد منصور، أحمد منصور ما بيعرف شو أنا حكيت عليه وشلون إجه هو ؟ كمان بيعطوه،
بيعذبوه وبيعطوه ورقة، وبيقولوا له اكتب، شايف، بعدين قصة مثلا إنه تقف على رجل
واحدة ورافع الرجل الثانية، وأيديك لفوق، ووجهك للجدار، بحيث ما تشوف السجان إنه
صار وراك أو صار بعيد عنك، مجرد ما تغير رجل برجل، أيضا بيجلدوك، وأنا أقول لك قد
لا تصدقني، إني أنا كنت أنام في حالات كثيرة وأنا مرفوع اليدين، وإحدى الرجلين
وأنام رأسي يلتوي على كتفي، فكيف فسر لي يا أبو طموح يمكن مالها تفسير عندك ؟ إنه
كيف سجين يعذب، وجسمه كله قروح وجروح، وقادر ينام وهو على رجل واحدة، وأكثر من ذلك
أنا راح أموت من الجوع، أكلت خبزات شاخخ عليها واحد مصاب بمرض.. بمرض السكر، كان
يناشدهم، يصيح لهم، أرجوكم أنا مريض، معي سكر، طلعوني، ما يطلعوه على المرحاض،
يبول داخل الزنزانة، أخدونا بعد لوين.. حطوني بالزنزانة، الخبز الموجود كله شخاخ،
بعد.. بعد أيام راح أموت من جوعي، اضطريت غصب عني.. غصب عني آكل الخبز المبتل
بالبول مع الأسف الشديد، بعدين، آسف يعني إنت اللي سألتني يعني، بالمرحاض بيطلعوا
الإنسان مرة واحدة، بيتركوا باب المرحاض مفتوح، حتى ما يشرب منه، وكيف ممكن
الإنسان يروح على المرحاض، وباب المرحاض مفتوح، وعشرة من الزبانية عم.. عم يراقبون
من شان ما يشرب ميه، يعني هاي غيض من فيض، قصصه كثيرة، قصص، يعني فيه كثيرين مثلا
بنقوله، أمين الحافظ، عدنان الحافظ من التعذيب من الطابق الثالث أراد أن يرمي نفسه
من الشباك على الحديقة، وهجم على البلور واتجرحت إيديه، ولولا مسكوه من ساقه كان
نزل، مات بالحديقة، والكهرباء يجيبوا الإنسان، جابوني كذا مرة، يسطحوه على البلاط،
وهو عاري، غطاء هذا اللباس الداخلي، ويربطوه من رجله وبأيده بأسلاك الكهرباء،
وبيتحكموابالفولتاج، هم اللي بيتحكموا، بيظلوا بيزيدوا الفولتاج لحتى الإنسان يعني
يبدأ يتصبب عرقه، ويرتجف جسمه كله، وبعدين يغمى عليه، فحسين زيدان وقت اعترف علي
كان تعرض لكل هذه الوسائل، وأنا بعد 57 يوم من التعذيب قررت الاعتراف لأنه ما عدت
أقدر..
أحمد منصور كملت 57 يوم.
أحمد أبو صالح: لعلمك أستاذ أحمد،
توصل الأمور لدرجة إنه الإنسان بيختل، ما عادت موازينه بتكون دقيقة، صمدت ها
الفترة كلها بعدين قررت إنه أنا لازم احكي..
أحمد منصور: 57 يوم !!
أحمد أبو صالح: 57 يوم أنا عاري،
وبزنزانة من.. من الزنك.. من الزنك، وبالشتاء.. بالشتاء بالزنك يعني درجة الحرارة
تصير 10 تحت الصفر ممكن، أو 5 تحت الصفر وأنا عاري، وما فيه.. ما فيه شيء داخل
الزنزانة، أنا أجمع أوراق السندويشات أحيانا بيعطونا كل يوم 3 سندويشات، الصبح
واحدة، والظهر واحدة، والمساء واحدة، أجمع الورق المصرور فيها الساندويش من شان
يعني أحطها تحتي من البرودة، ما في برد يعني، حتى بعد 57 يوم، (…) لحافظ الأسد، هو اللي قال له عبد الكريم
الجندي، قالوا أبو حسين بيكفي إذا كل ها المدة ما طلع منه شيء، ما.. ما عنده شيء،
معناها اتركوه يا أخي حله بيكفي، فاليوم اللي أنا كنت مقرر أعترف، ولم أدرك ما
حدث، لأنه المشرف الملازم إبراهيم بركات من النصيرية هو راح بيشرف على التعذيب،
ومحمد حربة أيضا نصيري، هو اللي أيضا عم بيعذب، قال لهم بس اكتفوا، ما عادوا
يستمروا أنا قررت أعترف، وصرت أصيح، يا أخي باحكي خلاص، أنا راح أحكي، راح أحكي،
وأنا باحكي ها الكلام وانفتح الباب ودخل هذا الملازم، وقال لهم بيكفيه تعال،
فرفعوا التعذيب، طلعت حلقوا لي وجهي، جايبين لي بنطلون وقميص، وجابوا لي فواكه،
وبعد ساعة جات أم طموح وبنتي أنا، وعندها رفعوا التعذيب، بعد 57 يوم، وقت اللي
اكتشفوا بعد فترة أنه في محاولة هرب أخذوني للشيخ حسن وعاودوا أيضا بالشيخ حسن
للتعذيب، هذا سجن مشهور بحلب (هو في دمشق وليس في حلب) في قلب تربة.. تربة موتى
وبضمنها في هذا السجن، بجدران عالية جدا، وكله زنزانات كان معي جورج حبش، كان معي
عصام المحايري، كان.. كان معي بوشناق، مجموعة يعني من ها الشخصيات، كان معي شيخ
مسكين، لحيته طويلة، حرقوا له إياها حرق،.. حرقوها، فصرنا نصيح له نحن من الزنزانة
يعني المسكين هيك، يبكي أنه.. إنه لها الدرجة إنه يحرقوا له لحيته، لأنه إله لحية،
ويسبوا محمد، ويسبوا الله (قاتلهم الله)، ويقولوا أنتم أخطر من الإسرائيليين، أنتم
يا سنة أخطر علينا من الإسرائيلين.
أحمد منصور: أيه اللي ممكن يوصل
إنسان إلى أنه يفعل في إنسان آخر مثل هذه الأشياء التي ربما لا يحتمل الإنسان أن
يسمعها، فضلا عن إنه يشاهدها، أو إنه هو - لا قدر الله - تحصل له ؟
أحمد أبو صالح: يا سيدي يعني أنا
بتقديري إنه الناس اللي تربوا على الحقد، والكراهية والتعبئة ضد جهة ما، وبيكونوا
هم بسطاء ومتخلفين، وعايشين على قمم الجبال، يعني بيصيروا أقرب إلى الوحوش.
أحمد منصور: الأنظمة العسكرية
كلها تمارس مثل هذه الأفعال التي تتحدث عنها، هذا لم يحدث في سورية فقط ؟
أحمد أبو صالح: صح مع الأسف
الشديد، لأنه ما فيه حقوق للإنسان، فيه حالة طوارئ يحكمها في..
أحمد منصو: كل الأنظمة العسكرية
اللي تسلطت على رقاب الشعوب العربية، مارست مثل هذا وأكثر، وكلها كما ذكرت - جابت
خبرتها من ألمانيا الشرقية، من يوغسلافيا، ومن الاتحاد السوفييتي ومن دول كثيرة،
لتمارس التعذيب ضد أبناء الوطن، الذين من المفترض أنهم جاءوا لخدمتهم، وليس للقضاء
عليهم، انتهاك آدميتهم، وانتهاك إنسانيتهم، وبعد ذلك يتحدثوا عن الحضارة وما وصلوا
إليه..
أحمد أبو صالح: هذا صحيح.
أحمد منصور: أما تعتقد معي أن أي
نظام حكم، مهما ادعى أنه قام بإنجازات، إذا قضى على الإنسان وعلى قيمته، وعلى
إنسانيته، وعلى رجولته، وفعل فيه هذه الأفاعيل، أما يستحق أن يدون كنظام إجرامي في
حق هذا الشعب ؟ مش معقول، أنا باتكلم بشكل عام.
أحمد أبو صالح: يا أستاذ أحمد..
أنا.. أنا.. أنا من القائلين الآن، إنه هاي محكمة العدل الدولية في لاهاي، يجب أن
يحال إليها كل الحكام العرب بلا استثناء، وكل من والاهم، لو حدث ذلك لوجدت كل هذه
الأنظمة ومن يدور في فلكها موضوعين في السجون مثل (ميلوسوفيتش) وأمثاله.
أحمد منصور: وأنت أيضا شاركت في
الحكم فترة، وكان هناك مظالم كثيرة.
أحمد أبو صالح: صح شاركت وكان في
هناك تعذيب، وإن كان أقل درجة لكن كان موجودا، لكن كما قلت لك، كنت أحاول عندما
أطلع أن يعني أتصرف كإنسان، لست حاقدا، والآن أنا أتكلم وأنا لست حاقدا على أبناء
هذه الطائفة النصيرية، لأنه أبناء الطائفة النصيرية أناس عايشين على رؤوس الجبال،
لا يعرفون ماذا يفعل من يحكم باسمهم، ما بيعرفوا وهم معظمهم فقراء، اللي استفادوا
حفنة من الناس، ركبوا الطائفة، واستغلوا الطائفة لتنفيذ مآربهم، وهادول الحرس
القديم والحرس الجديد وإلى آخره، هادولي كلهم مخضبة أيديهم بالدماء، لذلك هادولي
مثلا رأيي أنا لا يمكن بشكل من الأشكال أن يصدروا عفوا في يوم من الأيام، لأنه
قتلوا عشرات الألوف، وانفقد أيضا 15، 20 ألف إنسان مفقودين حتى اليوم، وتشرد مئات
الألوف، طب كيف ممكن يصدروا عفو هؤلاء ؟ مستحيل، لأنه إذا أصدروا عفو تنكشف كل
الحقائق، أنا بنت اخوي، عم تنتظر زوجها اللي صار من سنة 82 ما بتعرف مصيره، واحدة
أخرى عم تنتظر زوجها عدنان، وكثيرين على شاكلة هؤلاء الناس ما بيعرفوا مصير
ابنائهم أو أخوتهم ما بيعرف، الآن فيه بصيدنايا 500 معتقل من الإسلاميين، مضى على
اعتقالهم أكثر من 20 سنة وأهلهم ما بيعرفوا كيف عايشين، حتى تبين على أنه هادول
المساكين فقدوا اعتبارهم، فقدوا شخصيتهم، اهتز تفكيرهم، حتى طلب إليهم أن يصوموا،
ما أدركوا قيمة الصيام، مع العلم شوف بكل بلاد الأرض، بيجي المعتقل السياسي بيصوم
عن الطعام حتى يحرك قضيته، يحرك منظمات حقوق الإنسان، في سورية المساكين اللي مضى
عليهم ربع قرن بالسجون، ما عادوا على استعداد حتى يصوموا، وهم فقدوا كل شيء ليش؟
لأنه فقدوا اعتبارهم، فقدوا إنسانيتهم، يعني كل ها السنين، ووسائل التعذيب التي
استخدمت معهم، وصلوا لدرجة أنهم يعني انشل تفكيرهم، ما عاد له قيمة، قصة الصيام،
والإضراب عن الطعام، حتى مواطنا، حتى المحامي والمهندس والطبيب وصلوا لدرجة إنه
فقدوا أمنهم بالتغيير بعدما تذكر ويمكن أو قرأت قبل مثلا 20 سنة، طلعت كل النقابات
المهنية بقيادة الأطباء والمهندسين والمحامين، وقاموا الشارع كله، لكن قمعوا قمع
يعني ما بيتصوره عقل إنسان فيه عنده ذرة إنسانية.
أحمد منصور: أنا آسف أنا دائما
أحاول السيطرة على مشاعري وعلى عواطفي، لكن لا أعتقد إنه فيه إنسان يستطيع أن
يستمع إلى هذه الأشياء ولا يتأثر.
أحمد أبو صالح: بالعكس أبديت
إنسانيتك أنت، عبرت تعبير صادق وأمين عن... إنسانيتك.
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق