في السنوات الأخيرة؛ ما إن تستمع إلى خطاب للسيد حسن نصر
الله حتى تصاب بالدهشة من سوق الوقائع بشكل تعبوي مغاير للحقيقة. خطابه الأخير لا
يخرج عن ذلك، فإنذا كان مدهشاً في حينه، فإنه بعد مضي أسبوع؛ وقعت خلاله وقائع
كثيرة، أصبح أكثر دهشة، ما يستدعي العودة إليه قليلاً لمقارنة الأقوال بالأفعال.
وبعيداً عن الجانب التعبوي؛ ثمة أخطاء كثيرة يرتكبها
السيد حسن نصر الله في خطاباته؛ بحق البلد واقعاً ومستقبلاً، وبحق القوى التي
تخالفه النهج والموقف... كما بحق فريقه السياسي وحلفائه أيضاً. بعد كل خطاب ثمة
تعليقات من حلفائه؛ أكثرها مدحاً وبعضها مراجعةً.
التصحيح
في خطابه ما قبل الأخير (25/5- ذكرى المقاومة) ارتكب نصر
الله خطأين بنظر حلفائه:
الأول: أنه
أعلن -بشكل غير مباشر- انكسار النظام السوري بوجه "الجماعات التكفيرية"،
ما استدعى دخول "حزب الله" في المواجهات على نطاق واسع، لأن
"سيطرة هذه الجماعات على سوريا أو على المحافظات المحاذية للبنان؛ خطر كبير
على لبنان وعلى كل اللبنانيين"...
وصولاً إلى دعوة خصومه في لبنان إلى التقاتل معه على الأرض السورية تحت عنوان: "دعونا
نتقاتل هناك ونحيّد لبنان"، وهي دعوة لا يمكن لأي نظام في العالم، مهما بلغ
من الضعف، ألا يعتبرها اعتداءً عليه وعلى سيادة البلد الذي يحكمه.
تسريب امتعاض النظام السوري من هذا "الخطأ"
للإعلام، ومن ظهور الحزب لاحقاً كصانع لانتصار القصير، ومن ثم مراجعة السيد نصر
الله بالمسألة؛ أفضى إلى نظرية جديدة أطلقها نصر الله في خطابه الأخير (ذكرى
الجريح-14/6) تقوم على أساس تكبير صورة الجيش السوري المنهار بوصفه خابية، وتصغير
صورة "حزب الله" بوصفه بحصة، والقول: "إن البحصة – ولو كانت
متواضعة تفيد لأنها تستند الخابية"، على ما يقول المثل المعروف.
الثاني:
استفزاز نصر الله لغالبية الرأي العام العربي والإسلامي المصدوم من "قلة
وفائه" تجاه الشعب السوري، لا سيما تجاه أهل القصير، بعدما حاصرهم وحرمهم
أسباب الحياة، ومنع إخلاء جرحاهم، ومخاطبة جمهوره عنهم -أو عن المقاتلين المتحصنين
في القصير- كما لو كانوا العدو الإسرائيلي، وصولاً إلى قوله: "كما قلت لكم في الأيام الأولى من حرب الـ2006: كما كنت أعدكم
بالنصر دائماً أعدكم بالنصر مجدداً".
تسببت هذه الفجاجة في كلام نصر الله بحرج كبير لحلفائه
السنة، فراجعه بضعهم، على أساس أنه إذا كان لا بد من تدخل الحزب في سوريا، فلا
داعي أن يكون الفخر بقتال السوريين والانتصار عليهم بهذا الشكل. صحح نصر الله الموقف في الخطاب التالي، فلم يستعرض
إنجازات مقاتليه كما كان يفعل في حرب تموز، ولم يعِد بانتصارات جديدة كما فعل في
خطابه السابق، واكتفى بالتأكيد أن مساهمة حزبه في القتال "مجدية وأثبتت حتى الآن أنها مجدية، ولا أريد
الدخول في هذا الموضوع أكثر من ذلك".
مواصلة التضليل
تصحيح السيد نصر الله لم يكن هدفه التقارب مع خصومه، ولا
الرأفة بالبلد، بل مراعاة أوضاع حلفائه ليس إلا، ولهذا فإن مسلسل تحريف الوقائع،
وتضليل الرأي العام، وتعبئة جمهوره على غير هدى استمر. ثمة الكثير من المسائل في
هذا المجال؛ من بين أبرزها -في القضية السورية- اثنتان:
الأولى: تخطي
المبررات التي ساقها نصر الله سابقاً لتدخله عسكرياً في سوريا (حماية اللبنانيين
في سوريا، ثم حماية المقامات الدينية "منعاً للفتنة"، ثم حماية النظام
"لحماية ظهر المقاومة")، وإعلانه القتال إلى جانب النظام بشكل سافر، باعتبار
أنه يقاتل المشروع الصهيوني- الأميركي في سوريا. وبما أن هذا الأمر يتعارض مع
إعلان بعبدا، الذي وافق عليه الحزب؛ فقد برر نصر الله الأمر بأن الآخرين من اللبنانيين
فعلوا ذلك قبله، ولكنهم -خلافاً لشفافية "حزب الله" - لم يعلنوا. ثم راح
يتحدث عن مراحل أخذ قرار المشاركة المتأخر، "مع أن الوفاء كان حاضراً من
البداية" (يقصد الوفاء للنظام لا للشعب).
وفي
ذلك؛ حاول نصر الله تكبير وتبكير التدخل العسكري لغيره، وتقليل وتأخير التدخل
العسكري لحزبه؛ خلافاً للحقيقة، إذ لا يمكن مقارنة تحمس أفراد أو مجموعات للقتال
إلى جانب الثوار في سوريا، بقتال حزب منظم؛ شيّع حتى الآن نحو مئتي قتيل معلوم،
وخاض معارك أثبتت جدواها وفق وصف نصر الله نفسه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن
تظاهر نصر الله بتأخر قرار مشاركته في القتال في سوريا تكذبه الوقائع؛ لأن تسلل
مقاتلي الحزب إلى القصير بدأ منذ العام 2011، وأن أولى المعارك التي خاضها حزبه في
سوريا تعود إلى العام نفسه، كما بات معلوماً، ولكن قرار المشاركة القتالية الواسعة
بالآلاف هو الذي اتُخذ لاحقاً، لا سيما بعد زيارة نصر الله إيران.
الثانية:
أن
الحزب يقاتل في سوريا مسلحين أجانب "ممكن أن يصلوا إلى مئة ألف أو أكثر"،
وتالياً فإن الجيش السوري يواجه مؤامرة كونية، "بعدما جيء بالمقاتلين من كل أنحاء
العالم... (الذي) يقاتل بأمواله وسلاحه وإعلامه". وهنا أيضاً ضلل نصر الله
جمهوره، وحاول تضليل الرأي العام، لكن أداءه لم يكن جيداً؛ فإذا كان الأجانب في
سوريا وحدهم مئة ألف، فهذا يعني أن الثوار بمئات الآلاف، لكأن نصر الله يقر بذلك أن
الثورة تمثل غالبية الشعب السوري، خلافاً لمطلع خطابه الذي أنكر فيه توصيف الصراع في
سوريا على أنه شعب ثائر في مواجهة نظام جائر.
ثم
إنه من العجيب أن يتحدث نصر الله عن استنكاره وجود مقاتلين غير سوريين فوق الأرض
السورية، في الوقت الذي يقر فيه بإرسال الآلاف من غير السوريين (اللبنانيين) للقتال
في سوريا، وتالياً فإن الارتكاز على وجود مؤامرة على سوريا (النظام) بدلالة وجود
مقاتلين أجانب متهافت للغاية، ليس لأن الدول والشعوب الداعمة للنظام ترسل الأجانب
إلى سوريا، وإنما لأن عدد هؤلاء يفوق يقيناً عدد المنضمين إلى الثوار من الأجانب؛ يكفي
لأي متابع أن يبحث عن بيانات لواء أبي الفضل العباس ليدرك –وفق بيانات اللواء نفسه-
أنه يضم الآلاف من العراقيين والإيرانيين واللبنانيين والخليجيين وعدد من دول آسيا...!.
يكفيه أن يستمع في الأسبوع الأخير فقط إلى كم من الأخبار الموثقة بالصور والأفلام
عن أسر أو قتل أجانب يقاتلون إلى جانب النظام.
أما
حديث نصر الله عن احترام الرأي الآخر، والتعامل الحضاري مع المخالفين، بما في ذلك
تجنب السباب والشتائم، وبعد مواقفه وأدبياته عن الطائفية... فمسرحية أخرى؛ لا يتسع
المقام للتذكير بمشاهدها المجيدة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق