لقد تابعت باهتمام الحلقات التي بثتها
قناة (المستقلة) حول الجدلية القائمة بين السنة والشيعة وشارك فيها نخبة من علماء
الطائفتين لسنوات، وفي هذا السياق لابد من الوقوف باحترام أمام فضيلة الشيخ
(الشيعي) علي الأمين الذي عرف الحقيقة فوقف عندها معترفاً بها دون تقية أو مداهنة
أو رياء يبتغي وجه الله ورضوانه، وعند الطائفة الشيعية من النادر أن تجد لمثل هذا
العالم مثيل، وقد تمكن أصحاب العمائم من غسل أدمغة الملايين من أتباع هذه الطائفة
لأكثر من 1200 سنة مرت، ولا أعتقد أنه بسهولة يمكن أن تعود هذه الطائفة إلى رشدها،
وأرجو أن أكون مخطئاً، فأنا أتمنى لها ولكل من انحرف عن الهدى أن يهديه الله سبيل
الرشاد والعودة إلى أحضان الدين كما جاء من عند الله عز وجل صافياً نقياً طاهرا.
وللمزيد من الاطلاع والمعرفة بحثت
في كتب التاريخ عن قصة الإسلام في أفريقيا منذ الفتح الأول وحتى سقوط دولة
الأغالبة وقيام الدولة العبيدية في القيروان، ونحن في المشرق العربي أحوج ما نكون
إلى معرفة دقيقة لذلك التاريخ الغائب عنا، وقد اهتممنا بتاريخ المشرق وأهملنا
تاريخ المغرب الذي لم يكن أقل منه أهمية وشأنا، وأنا هنا أقدم لكم نموذجاً مما جاء
فيه من التعريف بفقهاء أفريقيا الأعلام الذين لعبوا دوراً كبيراً في التصدي
للعبيديين ومجاهدتهم حتى الرمق الأخير، ومن بين هؤلاء الفقهاء الأعلام (ابن
الحداد) رحمه الله، الذي تصدى للدعوة العبيدية وساجل أهم شخصياتها (أبو عبد الله
الشيعي) داعية المهدي الذي أقام دولة العبيديين في المغرب، وأطلقوا عليها زوراً
وتزييفاً وبهتانا (الدولة الفاطمية) نسبة لفاطمة الزهراء رضي الله عنها وهم براء
من فاطمة وزوجها وأبوها.
ولابد في هذا السياق أن نعرف بابن
الحداد، فهو سعيد بن محمد بن صبيح الغساني الإمام أبو عثمان شيخ المالكية في
زمانه، وأحد المجتهدين، كان بحراً في الفروع ورأساً في لسان العرب، بصيراً بالسنن.
كانت له مواقف خالدة في الذبِّ عن
السنة والمنافحة عن الجماعة والدفع عن الإسلام.
ناظر أبا العباس المعجوقي أخا أبي
عبد الله الشيعي الداعي إلى دولة العبيديين، وناظر شيخ المعتزلة (الفراء)
بالقيروان.
وتصدى لعبيد الله المهدي، مؤسس
دولة العبيديين في المغرب، وداعيته عبد الله الشيعي، فدحض أقوالهما بالحجج
والبراهين النقلية والعقلية حتى أخرسهما، على الرغم من تحذير ولده أبي محمد له إذ
قال: يا أبة، اتق الله في نفسك ولا تبالغ، فأجابه: حسبي من له غضبت، وعن دينه
ذَبّيت.
كان عالماً في الفقه والكلام
والذبَّ عن الدين والرد على فرق المخالفين للجماعة، من أذهن الناس وأعلمهم بما
قاله الناس.
قال أبو بكر بن اللباد الفقيه:
بينا سعيد بن الحداد يوماً جالس إذ أتاه رسول من قبل البغدادي فقال له: أحب أبو
جعفر أن يراك، قال: فلبست ثيابي ومضيت حتى أتيت بابه، فإذا برجل أجلس لي ينتظرني
فقال: ادخل، فدخلت عليه، فقال لي: أحب عبيد الله أن يجتمع بك، فقلت: ها أنذا، فركب
وجعل معي من يصحبني ومضى هو أمامي، قال: فمضيت مع الرجل حتى أتى بي إلى مكان
فأجلسني فيه، فأنا جالس حتى أتاني رسول ثانٍ غير الرجل الذي كنت معه، فقال لي: قم
يا شيخ، فقمت فدخلت معه حتى أتيت إلى باب المجلس الذي هو فيه فإذا بعبيد الله
(لعنه الله) جالس والبغدادي واقف على رأسه فدخلت، وأقبل أبو جعفر فقال لي: ادن،
حتى وقفت على رأسه فتكلمت بما حضرني من الكلام، ثم قال لي: اجلس، فجلست، فإذا
بكتاب لطيف إلى جانبه على مخدة، فرأيته وقد أومى إلى أبي جعفر فقال له: أعرض
الكتاب على الشيخ. قال: وربقته ببصري فعرفت الكتاب، قال: تصفح، فجعل يده على بعض
الصفحة وأنا أنظر إلى الإسناد، فقال لي أبو جعفر: اقرأ، قال: فقلت له: عرفت الحديث
وهو حديث (غدير خم): "من كنت مولاه فعلي مولاه". وهو حديث صحيح، وقد
رويناه. فعطف علي عبيد الله (لعنة الله عليه) فقال لي: فما للناس لا يكونون
عبيدنا؟ فقلت له: - أعز الله السيد - لم يرد ولاية الرق، إنما أراد ولاية في
الدين، قال: فقال لي: فهل من شاهد من كتاب الله عز وجل؟ فقلت: نعم. قال الله عز
وجل: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا
عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم
تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ
أنتم مسلمون). فما لم يجعله الله عز وجل لنبي لم يجعله لغير نبي وعلي لم يكن
نبياً، إنما كان وزير النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: انصرف لا ينالك أحد، قال:
فخرجت وصحبني البغدادي حتى خرجت وأومأ إلي فوقفت، فقال لي: اكتم هذا المجلس.
وأرسل محمد بن عمر المروذي في طلب
العلماء مدنيهم وعراقيهم، فقال لهم: إني أمرت أن أناظركم في قيام رمضان، فإن وجبت
لكم حجة رجعنا إليكم وإن وجبت لنا رجعتم إلينا. قال أبو عثمان: فقلت له: ما تحتاج
إلى المناظرة. فقال لي: لابد منها. فقلت له: شأنك وما تريد.
فقال: ألستم تعلمون وتروون أن
ألنبي صلى الله عليه وسلم لم يقم إلا ليلة ثم قطع وأن عمر بن الخطاب هو الذي استن
القيام وقد جاء في الحديث الذي تروونه ونرويه أن: "كل محدثة بدعة وكل بدعة
ضلالة وأن كل ضلالة في النار". فقلت له: هذه البدعة من البدع التي يرضاها
الله عز وجل ويذم من يتركها، فقال: وأين تجد ذلك في كتاب الله عز وجل؟ فقلت له: في
كتابه المنزل الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).
قال: وأين؟ قلت له: قال الله عز وجل: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا
ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)، فنحن نثابر على هذه البدعة التي هي
رهبانية لئلا يذمنا الله عز وجل كما ذمهم. فقال: من صلى القيام ضربت عنقه، قال:
فقلت له: قد قلت لك هذا أولاً: ما تحتاج إلى المناظرة، فلم تقبل.
ويحكى أن أبا عبد الله الشيعي قال
له يوماً: القرآن يقرُّ أن محمداً ليس بخاتم النبيين. فقال له سعيد: أين ذلك؟ فقال
له: في قوله: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) فخاتم النبيين غير رسول الله. فقال
له سعيد: هذه الواو ليست من واوات الابتداء وإنما هي من واوات العطف كقوله عز وجل:
(هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) فهل من أحد يوصف بهذه الصفات
غير الله عز وجل؟
وتكلم عنده يوماً فغضب من كلامه
رجل من كتامة يعرف بأبي موسى شيخ المشايخ وقام إليه بالرمح فمنعه أبو عبد الله من
ذلك ثم عطف على أبي عثمان فقال له: يا شيخ لا تغضب أتدري إذا غضب هذا الشيخ كم
يغضب لغضبه: يغضب لغضبه اثنا عشر ألف سيف؟
فقال له أبو عثمان: ولكني أنا يغضب
لغضبي الله الواحد القهار (الذي أهلك عاداً وثمود وأصحاب الرث وقروناً بين ذلك
كثيرا).
قال أبو الأسود موسى بن عبد الرحمن
القطان: لو سمعتم سعيد بن محمد في تلك المحافل - يعني مناظرته للعبيدي - وقد اجتمع
له جهارة الصوت وفخامة المنطق وفصاحة اللسان وصواب المعاني لتمنيتم أن لا يسكت.
وذكر أن الشيعي قال للصقلبي: إذا
اجتمع الناس فأذن لهم بالدخول علي، فلما جاء سعيد بن الحداد أذن له في الدخول،
فلما دخل قال للصقلبي: ألم أقل لك إذا اجتمع الناس فأذن لهم؟ فقال له الصقلبي: هذا
هو الناس كلهم وإنما فعلت ما أمرتني به. قال: وإنما فعل ذلك الصقلبي لما أعجبه من
كلام سعيد رحمه الله.
وخوفه ولده لمباينته للشيعي أول
دخوله، فقال له: يا بني حسبي من له غضبت وعن دينه ذببت.
لقد كانت لابن الحداد مساجلات مع
العبيديين، ومقامات في الدين مع الكفرة المارقين: أبي عبد الله العبيدي وعبيد الله
الدّعي وأبي العباس أخيه، أبان فيها كفرهم وزندقتهم وتعطيلهم.
خرج جماعة من القيروان للقاء
الدّعي عبيد الله منهم: أبو عثمان وحماس وابن عبدون، وكان أبو عثمان مهاجراً لابن
عبدون، وذلك أنه حبسه، فقال ابن عبدون لأبي عثمان تقدم يا أبا عثمان، فلم يجبه،
فقال له: تقدم فليس هذا وقت مهاجرة، فلسانك سيف الله، وصدرك خزانة الله، وإنما
أراد ابن عبدون بذلك أن يحرضه على مناظرة الشيعي.
ولما خرج لمناظرته خرج معه أهله
وولده وهم يبكون فقال لهم: لا تفعلوا لا يكون إلا خيراً، حسبي من له خرجت وعن دينه
ذببت.
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق