الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2013-06-06

من معتقل في أرض الثورة – بقلم: شام صافي

أقترب شيئاً فشيئاً إلى المكان الذي يذكرني بتلك المأساة وأصوات القذائف لازالت كما تركتها .. أقترب اليوم منه وقد شحب وجهي وانحنى ظهري وبات في جسدي آلام لا أكاد أحصيها .. من هنا اعتقلوني قبل ثلاثة أشهر لم أعرف فيها حياة وكأنها عذاب الجحيم، لا أصدق أنني مازلت على قيد الحياة لكنني أسير على قدمين كما الناس .. وجهي لا أعرف شكله أتمنى أن أصل إلى بيتي حتى أراه لأتذكرني .. فقد دخلت في آلة الزمن دهراً لا أحصي أيامه منذ أن دخلت ذلك القبو وشاهدت تلك الوجوه الساخرة وأيديهم التي لا يستعملونها إلا للإمساك بآلات وأدوات للموجودين أمثالي .. أما تلك الأدوات فكلما تذكرتها أشعر أنني أغيب عن الوعي مجدداً .. لا أستطيع أن أصف الآلام التي تسببها، يقول لي من رافقوني في أيامي الأولى بعد أن خرجت أنني أشرد كثيراً وأبكي وما بكيت أمامهم يوماً .. لكنهم حقاً لا يعلمون ما أعلمه وحتى لو علموه وأخبرتهم لا يمكن لهم أن يعيشوا في آلة الزمن تلك إلا إن كانوا فعلاً معي هناك ..


أولئك الذين كانوا معي وقد كانوا ثلاثين شخصاً هم فقط من يعلمون ولا أحد حولي اليوم يعلم ما أعلمه حتى أنتم، وحتى إن قرأتم لن تعلموا ..

لا تعلمون أنني كلما أخذوني إلى فرع التحقيق كنت أمر بممر طويل فيه قتلى وعلى الدرج الذي يقطن جانب غرفة التحقيق هناك كثيرون منهم .. عندما كنت أمر من هناك في كل مرة كنت ألمح بعض الوجوه بما أن رأسي نحو الأرض لا يرتفع ولكنني وبعد عودتي من ذات الطريق لا أدري أهو الألم الذي كان يريني إياهم قد اختلفوا أم هم حقاً خلال ساعات تبدلوا وأصبحوا جثثاً أخرى لم ألمحها قبل ساعات؟!

لا تعلمون أنني كنت طوال تلك الأشهر عارياً وبلا ملابس أنام وأقوم بحاجاتي الشخصية في نفس المكان الذي شاركني به الثلاثون ممن دخلوا معي آلة الزمن تلك.. لا مكان أنام فيه إلا على الأبوال وبقايا اللحم التي تهترئ من بعضهم وتسقط لوحدها إن لامست أي شيء .. لا أذكر أجساداً عارية لأن ما يحتل حيز ذاكرتي الآن عظام عارية! لأحياء يصرخون من شدة آلامهم ولا ينامون .. ليست التعرية أسوأ ما يصيبون به إنسانية البشر إنما الأسوأ تعرية العظام عن لحمها ..

لا تعلمون ماذا يفعلون حينما يأخذون الشباب من بيننا لأنهم يعودون أشباه أموات مغمى عليهم لا يدركون ما يحدث وفقط يصرخون مع أول لحظات يقظتهم.. يا إلهي صراخهم لا أستطيع أن أنساه أبداً يدوي في رأسي باستمرار ولا يود مفارقتي حتى اليوم .. أنا لا أزال معهم في ذاكرتي وخيالي وحالي .. أتقاسم معهم حبة الفاكهة من جديد وعندما أكملها اليوم أشعر أنني في ترف، أذكر أنني كنت الأحدث بينهم وأجسادهم لا تقوى على المسير لذا تركت لهم وجباتي الأولى من كسرة الخبز حصتي فكانوا يتشاجرون عليها في صراع للبقاء .. أذكرك يا ولدي يوم أخذوني كيف قبلت أيديهم وأقدامهم كي لا يفعلوا فضربوك ضرباً مبرحاً حتى تكسرت ولم تعد تستطيع إفلاتي من بين أيديهم وهم كثيرون .. لا أستطيع وصفهم فقليل عليهم وصفهم بالوحوش أمام ما يفعلونه .. يسكرون ويفعلون كل شيء بلا إدراك أو أحاسيس وكأنهم آلات للتنفيذ إجرام بأبشع صوره لا يمكن لكم أن تتخيلوا مجرد خيال ما يوصلون إليه الإنسان، ولا يمكن لكم أن تتخيلوا من أي حجر مصنوعة قلوبهم .. الموت عندهم لا يمكن أن تحصل عليه بسهولة .. تطلبه حثيثاً وليس من السهل أن تكسبه.

لن أنسى عندما أدخلوني غرفة فوجدت جثة لشاب معلقة من أطراف ثلاثة والرأس متدل والدم الذي يسيل منه لا يسيل! بل مجمد في مكانه .. كان منظراً مرعباً للغاية وقد كانت تلك الجثة حية لا تمارس من حياتها إلا صرخة وانتفاضة حينما يشغلون عليها الكهرباء، طريقي كان إلى الحمامات مزدحم بالجثث المنتفخة حتى في داخل المرحاض .. زمن دخولي كان محدوداً بعشرين ثانية والجثث على المرحاض متراكمة فوق بعضها وليس هناك مكان ولا وقت لقضاء الحاجة .. رائحة لا يوجد لها مثيل إلا في ذلك المكان تحديداً في آلة الزمن تلك .. فهناك ثمة عالم آخر لا تعرفوه ولن تعرفوه حتى بالزيارة .. لن تعرفوه إلا إن عشتم فيه حقاً ورأيتم ما رأيته وعشتم ما عشته هناك .. لم أتكلم مع أحد رغم أن الزحام كبير في آلة الزمن تلك لأن الحياة ليست بشرية .. تتقلص هناك الحياة إلى ضرورات أساسية فيزيولوجية في أضيق إمكاناتها لا شرب ولا منامة .. مشاهد من دمار نفسي لا يشبهها دمار على وجه الأرض كلها .. دمار من نوع آخر لن تعرفوه .. الإنسان يصبح هناك ردود أفعال غير واعية، يصبح هناك في آلة الزمن تلك مجرد كائن غير قابل للحياة.. والطبيب هناك مهمته تعذيب مكان الوجع والألم وزيادته مع تدمير نفسي لأي مصاب يطلبه ودون دواء وإن استعمل الخفيف منه فلهدره أمام عيني المصاب المحتاج له.

هم ليسوا منزوعي الرحمة بل هم أقبح من صناعة الموت ولئن خرجت من بين أيديهم بعد زمن قصير فلن تذهب تلك الأخاديد لقد حفرت تلك الأيام أخاديدها العميقة في وجداني وذاكرتي وإنسانيتي بحيث لن ينمحي منها ومن الإنسانية العار ما حييت ذهولي اليوم وسيبقى لهول ما رأيته ولهول ما عشته ولهول ما يحدث، كاندهاشي وأسفي على الناس الذين يقرؤون أسطري اليوم ثم ينسون أو يتناسون ولا يعملون جادين لإنهاء هذه المأساة الحقيقية والتي صنعها نظام أشرس من الوحوش في حق أبناء وطنه .. وأخشى بعد أن سردت بضع صور "فقط" من الماساة أن أسأل عن ما فعلت أيها القارئ، إن تخيلت أن آلافاً مؤلفة من إخوانك هكذا حالها وأسوأ .. أخشى أن الضمير يمكن له أن يموت أو يتخدر مع كثرة الصور والمشاهد والكلمات الموجعة دون رد فعل يستنهض همم إخوة "أصحاب آلة الزمن" من عرب ومسلمين، وإن كانت الأخاديد في النفس كبيرة لكنني أضيف أن المأساة الأكبر في استمرار حياة من يقرؤون ويتابعون دون أن ترفع هذه السطور والمعاناة من سوية جهدهم وطردهم لحظ النفس في أي عمل يقومون به ، فلقد رأيت أن حظوظ النفس في مرحلة الشدة والحاجة إلى التكاتف والتعاضد تهلك قوماً في هذه المحن العصيبة وتذكروا "لا شيء اسمه الأنا في هكذا مأساة معممة" .. في هكذا مأساة هناك أخي الذي يتمزق ويتفتت أمام ناظري وهو حي وقد أكون التالي، وأقول .. لا بد أن يصيب الخذلان من لا يعتبر، بشكل ما من الأشكال .. وأقول: هناك أحياء يسيرون على قدمين نفوسهم مدمرة وهناك أحياء لا تزال نفوسهم رغم الدمار ذاك معمرة ..

من مر بآلة الزمن تلك يعلم أن الإمكانات أكبر من الذي تدعم بها الثورة .. ولا يبرر لأي أحد خذلانه ويسجل في صفحات التاريخ  كل شيء ويدونه بالدم تارة وبقلم أصحاب القضية ذاتها تارة أخرى .. يعلم أن ما يصنعه الثوار من إنجازات وانتصارات عبر تلك الإمكانات البسيطة هي ذات الدروس التي تعلمناها من آلة الزمن تلك، إن عائقنا الوحيد في صناعة النصر الحاسم فقط هي نفوسنا التي تاهت في جعبة الأنا حينما سكن الإحباط ضعفاء القضية، في حين أن الثوار المجاهدين يعلمون اليوم أهمية ما يصنعون ويعلمون أنهم في دروب يغمرهم فيها إيمانهم بأن الممكنات أكبر وألا شيء مستحيل أمام كل القوى التي تريد وأد ثورته واجتمعت على الشعب السوري الذي أراد لثورته أن تصل أهدافها، ليست المعيقات إلا شعورنا أننا بحاجة الآخرين فنحن نستطيع إن عرفنا كيف وطبقناه، واسمعوا جيداً: "لا يعرف هذا الدرس إلا من يفقد كل شيء فهو وحده من يشعر بقيمة أي شيء، وأنا اليوم أشعر بقيمة أي شيء يمكن عمله" وأقول لكم أننا قادرون على النصر وأن العمل اليوم يجب أن يكون في رص الصفوف وفي نفوس سليمة باعت للنصر القضية ولا ترى غيره .. من هنا المخرج إيمان بالنصر وعمل سديد رغم الجراح.

بقلم: شام صافي

6-6-2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق