لقد
كان هاجس الحضارة ومايزال يشغل بال الأمم منذ فجر التاريخ ، ويخبرنا علم الحضارات
أن "حالة الحضارة" تتشكل من تضافر ثلاثة عوامل لا تقوم الحضارة في غياب
واحد منها ، فالحضارة تتطلب أولاً أفكاراً خلاقة قادرة على تحقيق حالة الحضارة
المنشودة ، وتتطلب الحضارة ثانياً توفير الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأفكار
الخلاقة على أرض الواقع ، وتتطلب الحضارة ثالثاً الإنسان الذي يؤمن بتلك الأفكار
ويحسن استخدام الوسائل الكفيلة بتنفيذها ، فعندئذ يمكن أن تحقق الأمة حضارتها
المنشودة .
والحضارة
حالة
شاملة تعم الأمة ومختلف أنشطتها ، فإذا ما رأيت أمة تعيش حالة حضارة رأيت فيها كل
شيء في حالة نمو وتطور ونشاط ، فترى فيها الفن والأدب والسياسة وكل مفردات الحضارة
في ازدهار وتألق ونماء ، أما في غياب حالة الحضارة فإنك لا يمكن مثلاً أن تجد
أدباً راقياً إلى جانب فن هابط ، بل تجد الأدب والفن وسائر الأنشطة الثقافية في
حالة مزرية من الإسفاف والسطحية والتردي ، وكذلك بقية الأنشطة السياسية
والاجتماعية التي تراها تتخبط يميناً وشمالاً على غير هدى !
والتفوق
الحضاري
ليس حكراً على أمة من أمم الأرض دون غيرها كما زعمت بعض النظريات العنصرية ،
كالنازية والفاشية والصهيونية ، وكما يزعم اليوم دعاة الغرب الذين يعتقدون أن تاريخ
الحضارة انتهى عند نموذجهم اللبرالي ، فقد قضت حكمة الخالق عزَّ وجلَّ أن لا
تستأثر أمة من أمم الأرض بمشعل الحضارة طوال الوقت ، وهذا ما نشاهده عبر التاريخ
البشري كله ، فقد تناوب على حمل المشعل حتى اليوم أمم كثيرة عبر القارات المختلفة
، وهكذا هي سنة الله في خلقه ، فليس لأمة من أمم الأرض مهما أوتيت من جبروت سياسي أو
تقدم علمي أو قوة مادية أن تبقى في القمة حتى آخر الزمان ، بل لكل حضارة زمن ما ،
ثم تمضي وتطويها سجلات التاريخ ، وقد تكون نهايتها صامتة فتغيب عن مسرح التاريخ
بهدوء ، وقد تكون نهايتها مزلزلة بعذاب بئيس ، كما ورد في الذكر الحكيم (( وإنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلا نحنُ مُهْلكوها
قَبْلَ يَوْمَ القِيامَةِ أو مُعَذِّبوها عَذاباً شَديداً ، كانَ ذلكَ في الكتابِ
مَسْطوراً )) سورة الإسراء
58 .
والحضارة كذلك
ليست حكراً على المؤمنين دون الكافرين كما يخيل لبعض الأمم التي تحسب نفسها ( شَعْبُ
اللهِ المُخْتار ) أو الذين يزعمون أنهم ( أولياءُ اللهِ وأحِبَّاؤُهُ )
فالحالة الحضارية بمعناها المادي قد تقوم على قيم إيمانية وأسس أخلاقية ، وقد تقوم
على قيم وأسس غير هذه ، وقد حملت مشعل الحضارة عبر التاريخ أمم مؤمنة تارة ،
وحملته أمم كافرة تارة أخرى ، مما يوحي بأن الخالق العظيم سبحانه أراد للحضارة أن
تنمو في خط صاعد عبر التاريخ ، سواء كان ذلك على أيدي المؤمنين أو الكافرين .. والعاقبة
آخر المطاف للمتقين .
ومن
سنن الله في الحضارة أن يقضى عليها حين يعتقد أهلها أنهم بلغوا القمة ، وحين
تدور برؤوسهم خمرة التفرد والجبروت ، فيصرخون في نشوة : مَنْ أشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً ؟ فإذا ما ظنت أمة من الأمم أنها بلغت هذا الحد من الجبروت ، وأنها
وصلت أوج مجدها ، وأنها ملكت زمام الأمور ، أتاها أمرُ الله عز وجل فنحَّاها عن
دفة القيادة كما فعل بكثير من الأمم من قبل ، وهذه سنة إلهية لا رادَّ لأمرها ، نجد
شواهدها في صفحات التاريخ ، وفي أطلال الحضارات البائدة المترامية هنا وهناك في
أرجاء الأرض ، ولعل أنصع مثال على هذه النهاية الكارثية ما حدث لمدينة "إرَمَ
ذَات العمَاد التي لَمْ يُخْلَقْ مثْلُها في البلاد" التي رواها القرآن
الكريم ، فقد بلغت تلك المدينة العامرة درجة من الكمال والعظمة والجبروت غير
مسبوقة في التاريخ ، حتى هتف أهلها في نشوة : من أشدُّ منَّا قوة ؟ فكان
ذلك إيذاناً بخرابها ، وتلك هي نهاية كل حضارة تعتقد أن التاريخ قد انتهى عند
أعتابها !
د.أحمد محمد
كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق