ما يزال الوطن العربي منذ عهد الاستقلال وحتى اليوم يعاني من حالة الاستبداد السياسي الذي جعل الشعب مرتهناً في أيدي الحاكم ، ولم يغير من هذه الحقيقة نشأة العديد من الأحزاب السياسية في طول الوطن العربي وعرضه ، هذه الأحزاب التي كنا نأمل منها أن تصحح المسار ، وأن تقوم بدورها الفاعل في التغيير وفي التعبير عن آمال الشعب وتطلعاته ، إلا أن تاريخ هذه الأحزاب منذ الاستقلال وحتى الآن ظل مخيباً لآمال الجماهير العربية ، فقد انحاز كثير من هذه الأحزاب إلى صف الحاكم وأعانه على الفساد ، وارتبط بعضها بأجندات خارجية مشبوهة ، وتبنى بعضها الآخر إديولوجيات تتناقض مع دين الأمة وتراثها وعاداتها وتقاليدها ، وانشغلت أحزاب أخرى بهموم صغيرة متجاهلة الهموم الكبيرة التي تكاد تعصف بهوية الأمة ومصيرها ، وبقيت قلة قليلة جداً من هذه الأحزاب تتبنى بالفعل قضايا الأمة وتناكف الحكام من اجل تحقيق الاستقلال الحقيقي ، والإقلاع بالأمة نحو مستقبل جديد لطالما ظلت الأمة تتطلع إليه .
ولسنا
هنا بصدد الخوض في الأسباب والعوامل التي انتهت بالأحزاب العربية إلى هذه النهايات
المخيبة للآمال ، ولكن حسبنا في هذه العجالة أن نستعرض الصورة الراهنة لهذه الأحزاب
، مع وعد بأن نعود في مقالة لاحقة إلى مناقشة تلك الأسباب والعوامل بالتفصيل :
1.
ولعل
أول الظواهر الحزبية السلبية التي باتت معروفة للقاصي والداني أن الأحزاب العربية ـ
حتى في أفضل التجارب العربية ديمقراطية ـ لا تحكم ، حتى وإن نص دستور البلاد على
حقها في الحكم والتناوب على السلطة ، وتكتفي معظم أحزابنا العربية بالفوز ببعض
كراسي البرلمان ، وينتهي دورها بالنوم في تلك الكراسي إلى موعد الانتخابات التالية
!
2.
مع
تكريس فكرة "الأب القائد" و "الزعيم الأوحد" و "قائدنا
إلى الأبد" وما شاكل ذلك من أوصاف التبجيل التي وصلت في كثير من الحالات إلى
درجة التقديس ، فقد تحولت فكرة "الحزب الحاكم" عندنا إلى "حزب
الحاكم" فالحزب الذي يسمح له بالتواجد على الساحة هو الحزب الذي يعطي ولاءه
المطلق للحاكم ، ويرضى بأن يكون مجرد أداة طيعة بيده ، لكي يمرر من خلاله فرماناته
السلطانية !
3. وتزيد الصورة قتامة حين نرى الحاكم
يتفضل على الحزب صاحب الأغلبية فيكلفه بتشكيل الوزارة ، مع احتفاظ الحاكم بحقه
المطلق في حل الوزارة متى شاء ، غير عابئ بالدستور ، وهي ظاهرة مسرحية هزلية باتت
تعرض فصولها في طول الوطن العربي وعرضه .. مع أنها لم تعد تضحك أحداً !
4. وأدهى من هذا وذاك أن بعض البلدان العربية
مازالت إلى اليوم تحظر تشكيل الأحزاب نهائياً ، بحجة أن "باب السلطان"
مفتوح على مدار الساعة لسماع شكاوى الرعية .. فما هي الحاجة إذن لوجود الأحزاب ؟
ثم إن الأحزاب مكروهة في الدين ، ألم تسمع قوله تعالى : ( فًتًقًطَّعوا أمْرَهُمْ
بَيْنَهُمْ زُبراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحونَ ) ؟! وهذه كلها حجج
واهية متهافتة ، يتلاعب بها الحكام بهدف الاستفراد بالسلطة .. والسياسة .. والقرار
جميعاً !
5. تحت وطأة هذا الوضع السياسي المأزوم لم
يعد لأحزاب المعارضة أمل في المشاركة الفعلية بالحكم ـ وهو هدف مشروع للأحزاب في
البلدان التي تحترم نفسها ـ بل بقيت هذه الأحزاب مجرد ديكورات سياسية ، يوظفها
الحاكم توظيفاً إعلامياً خبيثاً ، ليوهم الشعب بوجود حرية سياسية في البلاد ، غير
عابئ بأن أحداً من الشعب لا يصدقه !
6.
وتساهم
بعض الأحزاب الانتهازية في تعميق هذه الأزمة حين ترضى بجزء من "الكعكة"
كما يقولون ، فيسترضيها الحاكم بوزارة هنا ، أو إدارة هناك ، ليسكت جوعها إلى
السلطة ، وقد يغض الطرف عن بعض تصرفاتها الفاسدة ، ويكلف مخبريه بالمقابل لفتح ملف
سري لها يهددها به كلما فكرت بالخروج عن الطاعة !
7.
إن
تضييق الحكام على الأحزاب تارة ، وتهميشها تارة أخرى ، وملاحقتها باتهامات ملفقة
أكثر الأحيان ، أدى إلى إضعاف الممارسات السياسية ، لأنه شغل الأحزاب بهذه المعارك
الجانبية ، وأدى إلى عزوف المثقفين المخلصين ذوي الخبرة عنها ، إما إيثاراً
للسلامة ، وإما لفقد الأمل بالتغيير ، في ظل سلطة مستبدة غاشمة تأخذ الناس بمجرد
الشبهة .. إلى غياهب السجون .. أو عتمة القبور !
8.
مما
زاد الطين بلة ، أن استبداد الحكام ، واستفرادهم بالسلطة ، انتقلت عدواها إلى
الأحزاب العربية نفسها ، فقد استمرأ قادتها الجلوس على "الكراسي" وأصبح
من المستحيل إزاحتهم عنها ، ما جعل أحزابنا العربية تعاني من شيخوخة قياداتها ، وشيخوخة
كوادرها .. ومن ثم شيخوخة فكرها، وكوارث ممارساتها !
9. أما الحديث عن الانتخابات داخل الأحزاب
فحدث عنها ولا حرج ، إذ لا تقل هزلية عن انتخابات الحاكم نفسه ، فعلى الرغم من أن
الأنظمة الداخلية للأحزاب قاطبة تنص بكل صراحة ووضوح على الديمقراطية , وتداول
السلطة ، والانتخابات النزيهة ، والشفافية ، والحياد ، وما إلى ذلك من أبجديات
الممارسات الحزبية السليمة ، فإن واقع أحزابنا العربية يقول عكس ذلك تماماً ، فما
إن يعلن الحزب عن نيته لتنظيم الانتخابات بين كوادره حتى تبدأ المناورات ، ويبدأ
اللعب من تحت الطاولة ومن فوقها ، في السر وفي العلن ، لتعود آخر المطاف نفس
الوجوه التاريخية فتتصدر قائمة الفائزين ، ويعود أمين عام الحزب إلى
"الكرسي" ليردد مواله القديم الذي لم يعد يطرب أحداً !
10.
ومن الظواهر السلبية في ممارسات أحزابنا العربية كذلك أنها تشاغلت بالخلافات
الإيديولوجية فيما بينها عن هموم المواطن المسحوق ، وهذا ما جعل الجماهير تزهد
بالعمل الحزبي وتنفر منه ومن زعمائه ، كما أن تلك الخلافات الحزبية أتاحت فرصة
ذهبية للحاكم ليستفرد بالسلطة دون رقيب ولا حسيب ، وجعلت الساحة تخلو له ليسرح
ويمرح ويقامر بمصير الوطن على هواه !
وبعد .. فإن هذه الصورة القاتمة
تطرح علينا سؤالاً محرجاً ومقلقاً في الوقت ذاته ، مفاده : هل من سبيل لإصلاح الحياة
الحزبية في وطننا العربي ؟ ونسارع هنا إلى القول بأن عملية الإصلاح ممكنة ، فلا
يأس مع العمل الجاد والنيات الصادقة ، وهذا " الربيع العربي" الذي هلت
بشائره يعدنا بالكثير من الآمال المثمرة الطيبة ، لكن مع الانتباه إلى أن عملية الإصلاح
لا تتوقف فقط على الدعوة إلى الممارسة الديمقراطية التي تنص عليها دساتير الأحزاب ومنطلقاتها
النظرية ، بمقدار ما تتوقف على ترسيخ الممارسات المؤسساتية داخل أروقة الحزب ن واستقطاب
الكوادر الحزبية المعروفة بنزاهتها أولاً ، ثم كفاءتها السياسية والإدارية والعلمية
المتخصصة ، وإتاحة الفرصة لهذه الكوادر لتمارس إبداعاتها في التجديد للخروج من هذا
المستنقع السياسي الذي لم توصلنا إليه الأنظمة الحاكمة وحدها ، بل كان للأحزاب دور
لا ينكر في رسم هذه النهاية المحزنة التي جعلتنا اليوم بحاجة ماسة لبداية جديدة ..
وللحديث بقية في وقفة قادمة بإذن الله تعالى .
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق