ورث "الأسد الابن" السلطة عن والده،
الذي كاد أن يؤسس لمشروعية التوريث في المنطقة، والتي تم دفعها إلى الوراء لتنكفئ مع
بزوغ ما سمي بـ "ربيع الثورات العربية". هذه السلطة ورّثت عنوة عبر تمهيد
"الأسد الأب" لها منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين، من خلال الضغط
على المؤسسات الحزبية والشعبية لقبول فكرة "الابن الشرعي للحكم" وتقديم
" الأسد الابن " بصورة دعائية بأنه الذي يمكن أن يقود سورية بعقلية حداثية
منفتحة على العالم.
كانت هذه السلطة الموروثة مثقلة بالأوزار شديدة
الوطء على شاب لم يختبر السياسة، وكان أشبه ما يكون برئيس الصدفة، فهو الولد الأكبر
لأبيه بعد وفاة أخيه باسل ذي الشخصية العسكرية، ليتسلم ملفات شائكة عصية على الحل في
ظل بنية سياسية استثنائية تقوم على الحزبية المتفردة بالسلطة بقيادة حزب البعث وما
سواه إنما هي أحزاب تقليدية ضعيفة تم تذويبها وقياداتها تحت ما سمي بـ "الجبهة
الوطنية التقدمية"، والتي جُرّدت من أية صلاحيات فعلية. بالإضافة لذلك فإن على
"الأسد الابن" أن يواجه ملف الإخوان المسلمين وما عُرف بأحداث الثمانينات
والذي خلّف الآلاف من القتلى والمعتقلين والمهجرين سياسيا.
كذلك ملف الأكراد واستحقاقات الاعتراف بهم
كثقافة إثنية وكقوة سياسية فعلية، ومن أعقد ما تسلمه "الأسد الابن" في هذا
الملف قضية الأكراد الذين تم تجريدهم من الجنسية في إحصاء 1962 والذين وصل عددهم حتى
الآن ما يزيد عن 300 ألف، والذي يعتبره الأكراد إجراء عنصريا أملته أيديولوجيا حزب
البعث العربي، ورغم أن الحراك الشعبي الحالي أرغم السلطة على الرضوخ لتجنيس الأكراد
إلا أن القوى الشعبية الكردية رفضت هذا العرض من قبل السلطة طالما أن المعادلة تغيرت
وأن المسألة باتت مسألة تغيير نظام الحكم وليس مسألة حل مشكلة تجنيس الأكراد. أيضا
فإن ملف الجولان كان الاختبار الحقيقي لقدرة "الأسد الابن" على إدارة هكذا
ملف، ويبدو للبعض أنه سار على خطى والده ففضل الاعتياش عليه تحت ما سمي لاحقا بـ"محور
الممانعة"، ذلك أن تحرير الجولان يعني الاستجابة للاستحقاقات الداخلية وضرورة
الإصلاح السياسي والذي لم يرد فعله هذا النظام حتى الآن، والذي كان من أسوأ ممارساته
استمرار الحكم بقانون الطوارئ المسلط على رقاب السوريين منذ عام 1963. وترى المعارضة
أن جبهة الجولان جبهة مفتعلة، فالنظام هو الحارس الأمين لها وهو ما يشكّل تطمينا لإسرائيل،
فـ"الأسدين" لم يطلقا حتى رصاصة واحدة على جبهة الجولان. وحتى تحريك ملف
جبهة الجولان أخيرا التي قامت به بالإنابة "الجبهة الشعبية الفلسطينية" التابعة
لأحمد جبريل جاء في إطار لفت النظر عما يحدث من حراك شعبي حقيقي على الأرض.
تسلّم "الأسد الابن" هذه السلطة
مع تفاؤل السوريين بهذا الشاب ذي العقلية المنفتحة كما كان يفترض، ولكن "الأسد
الابن" لم يحرك ساكنا، على الأقل فيما يرتبط بعملية الإصلاح السياسي، فرغم انفتاحه
على عمليات الحراك السياسي في بداية حكمه مع بزوغ ما عرف بربيع دمشق، فإنه تحت ضغط
المؤسسة الأمنية والجيش الطائفي عاد إلى الانغلاق ثانية، فبدأت سورية تشهد عمليات اعتقال
واسعة وتضييق لأية عملية حراك سياسي أو نمو لمؤسسات المجتمع المدني. لم تشهد سورية
إبان حكم "الأسد الابن" سوى عمليات مجتزئة للإصلاح والانفتاح الاقتصادي عرفت
بـ"اقتصاد السوق الاجتماعي"، والتي شكلت مزيدا من الأوزار المثقلة على الأسد،
حيث أدى ذلك إلى تشكيل طبقة برجوازية جديدة، فشهدت سورية عمليات فساد منظمة يقودها
قريب الرئيس "رامي مخلوف" والذي يمكن أن يسمى بـ"أحمد عز سورية".
وبدا لمعظم السوريين أن "الأسد الابن" إما أن يكون عاجزا عن عمليات الإصلاح
التي وعد بها مع وصوله للسلطة أو أنه متواطئ مع هذه الطبقة البرجوازية وليس لديه أية
نية حقيقية للإصلاح الفعلي.
ومع موجة الثورات العربية التي اجتاحت المنطقة
بدءا بتونس ثم مصر واليمن والبحرين وغيرها فإن النظام ظن نفسه عصيا على التغيير مبررا
أن سورية دولة "ممانعة" وأن الشعب السوري لن يقوم بأية عمليات احتجاج ضد
النظام، ولكن تفاؤل النظام قد ارتد على أعقابه مع بدء الاحتجاجات في 15 مارس من عام
2011 استجابة لدعوات شبابية على مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرا هذا الشباب أن الشعب
السوري ليس كائنات فضائية بل هو جزء من المنظومة المجتمعية العامة المتشابهة مع كثير
من دول المنطقة.
ومع توسع هذه الاحتجاجات في المناطق التي لم
تشهد توترا مع النظام قبل ذلك، فقد تميزت هذه الاحتجاجات بأنها ذات بعد سياسي أكثر
منها اقتصادي، فالشعب السوري ربما يكون أكثر شعوب المنطقة تعطشا للحرية.
يحاول كاتب هذا المقال أن يتناول آفاق هذه
الاحتجاجات مستهدفا وضع سيناريوهات ذات توجه استطلاعي وليس استهدافي تصف إمكانات واقعية
وبديلة لمستقبل سورية مستخدما الأسلوب الكيفي في كتابة هذه السيناريوهات نظرا لمحدودية
نطاق المقال، وربما لأن الظاهرات السياسية تمثل الامتداد المنطقي للتطورات الراهنة،
وذلك فيما لو استمرت الأزمة مرهونة لردود فعل السلطة الحاكمة والفواعل الاجتماعية الأخرى
تجاه التغيرات المحلية والإقليمية.
1- سيناريو
الانقلاب العسكري (السيناريو الوسيط): يعتقد بعض المحللين أن أنجع سبيل لتغيير
نظام الحكم القمعي هو القيام بانقلاب عسكري. وفي هذا السياق لا بد من تذكير الذين يدعون
إلى هذا الحل ويرفضون حل التدخل الأجنبي بأنهم سوف يمرون على هذا الأخير ولكن بصورة
أخرى. فما عرف بعصر الانقلابات، في حقبة الخمسينات والستينات بسورية، نجح في الوصول
إلى الحكم عبر السفارة الأمريكية في دمشق، التي لم تكن غائبة عن هذه الانقلابات بشكل
أو بآخر. ولكن وقوع هذا السيناريو يكاد يكون ضعيفا، ذلك أن الجيش السوري وتركيبته الطائفية
من السياسات التي اتبعها النظام، فعبْر حكم "الأسدين" كانت هناك عملية ممنهجة
لهيمنة الطائفة "العلوية" على مؤسسة الجيش، خاصة على مستوى قيادات الصف الأول
والثاني وجعل ضباط الطوائف الأخرى في الصفوف الخلفية للجيش. هذه السياسة كانت تمارس
بشكل واضح للشعب السوري، وكان الهدف منها حماية النظام الطائفي في سورية. ومن أجل الموضوعية
يمكن القول أن عمليات الانشقاق التي تحدث من قبل بعض الضباط هي حالات انشقاق سلمية
لن يكون لها أي ثقل ميداني إلا إذا افترضنا أن هذه الانشقاقات هي صدى إعلامي، عبر ما
عرف ما سمي بـ "حركة الضباط الأحرار"، والتي يمكن أن تؤسس لحركة انشقاق ذات
تأثير قوي لقطاعات من الجيش التي يمكن أن تحسم المسألة. وفي حال حدوث هذا السيناريو
فإنه سوف يكون أقرب إلى النموذج الموريتاني حيث سيطرأ على النظام تعديلات إصلاحية غير
جذرية لمجموعة السياسات المطبقة حالياً، وسوف يشهد توترات واحتجاجات اجتماعية لمزيد
من الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي المنشود.
2- سيناريو التدخل الأجنبي (السيناريو المتشائم):
في ظل البنية الحالية للنظام السياسي في سورية فإنه من الصعب تخلي السلطة القائمة عن
مهامها أمام الاحتجاجات الاجتماعية العارمة، ذلك أن هذه البنية، القائمة على استحكام
أجهزة الأمن والجيش على مقاليد الأمور بشكل فعلي في سورية، تعني أن الخيار العسكري
سوف يكون الخيار الأسهل لمواجهة هذه الاحتجاجات. ورغم أن عجلة الزمن لن تعود للوراء،
أمام الانفتاح الإعلامي والتكنولوجي، فيحدث ما حدث إبان الثمانينات، إلا أن سياسات
التعتيم الإعلامي قد تعطي فرصة للنظام لإتباع خيار الحل العسكري فيكون عندئذ التدخل
الأجنبي واردا، لا سيما أن الغرب ينظر إلى سورية بأنها تمثل عائقا لتحقيق مصالحها ومصالح
إسرائيل في المنطقة. وهذا السيناريو سوف يكون أقرب إلى السيناريو الليبي. ولكن حدوث
مثل هذا السيناريو يطرح احتمالات التدخل الإيراني لحماية النظام السوري الذي يشكل الجسر
المنيع لتمرير مشروعها المأمول في المنطقة عبر ما يعرف بـ " الهلال الخصيب".
ولعل حدوث هذا السيناريو سوف يخلط الأوراق في المنطقة وربما يعيد إنتاج التجربة العراقية
المرة وهو ما لا يستحسنه الرأي العام في سورية وربما يشهد عمليات مقاومة شعبية للتدخل
الأجنبي ما يشكل عملية مرتدة وانكفاء لهذه الاحتجاجات المشهودة.
3- سيناريو البقاء (السيناريو الواقعي): صورة
حدوث هذا السيناريو هو محاولة "الأسد الابن" امتصاص هذه الاحتجاجات عبر وعود
إصلاحية وحلحلة بعض الملفات الشائكة خاصة ملف الأكراد، ويكون هناك أشبه ما يكون إتباع
لعملية "الاحتواء المزدوج" بإتباع سياسات المنطق الأمني واتخاذ إجراءات الاعتقال
التعسفي والتمشيط الأمني، وفي نفس الوقت الوصول للقيادات الدينية والسياسية والاجتماعية
وإقناعها بالوقوف لجانب النظام عبر عناوين كبيرة مثل الحفاظ على الوحدة الوطنية والمؤامرات
الإقليمية والدولية على سورية. وفي حال حدوث هذا السيناريو فإن عمليات الإصلاح السياسي
والاقتصادي سوف تكون جزئية ومحدودة وتكون بمثابة تحقيق لمقولة " التاريخ يعيد
نفسه" فالأسد الأب واجه، بعد 10 عشر سنوات تقريبا من حكمه، احتجاجات من هذا النوع،
رغم اختلاف المنحى والظروف السياسية والاجتماعية آنذاك، فاستطاع أن يقمع هذه الحركة
الاحتجاجية وتوطيد حكمه ليتأبد بالسلطة ويؤسس لحالة سياسية إقصائية والتي أهلت لحدوث
هذه الحركة الاجتماعية العارمة.
4- سيناريو التغيير السلمي (السيناريو المتفائل): يمكن
تصور هذا السيناريو بتمدد الاحتجاجات الاجتماعية في جميع المناطق السورية لتأخذ شكل
ثورة سلمية تقوم على كاهل الشباب وبتبنٍّ من القيادات المجتمعية لهذه الثورة. وهذا
السيناريو متوقع، ذلك أن طبيعة التركيبة الديموغرافية للمجتمع السوري تؤهل لوقوع هكذا
سيناريو، فالمجتمع السوري يتسم بالتنوع الشديد والفريد ربما في المنطقة باستثناء العراق
ولبنان، حيث إن التنوع الطائفي والعرقي يصل إلى أكثر من عشر طوائف وإثنية، وفيما لو
قررت العشائر الانضمام للثورة، والذي بدا صداه في الحراك العشائري في منطقة دير الزور،
فإن هذا السيناريو واجب الحدوث، فمن المعروف أن هذه العشائر هي من وطدت حكم "الأسد
الأب" فماذا لو تغيرت المعادلة؟ ورغم أن هذا السيناريو، وهو الأقرب إلى السيناريو
المصري والتونسي، ممكن الحدوث حيث لا قانون ثابت غير قانون التغير، فإن بنية النظام
والتداخلات الإقليمية قد تعيق حدوث هذا السيناريو مما قد يؤدي إلى إخفاق نجاح الثورة
السلمية المأمولة.
ولأن كتابة السيناريوهات ربما تحتم على من
يقوم بصياغتها عدم التدخل المباشر بصناعتها، ولأن بنية النظام السياسي في سورية بنية
معقدة فإنه لا يمكن للكاتب اختيار سيناريو دون آخر فكل السيناريوهات واردة، ويبقى احتمال
اتساع الاحتجاجات الاجتماعية يرجح سقوط النظام الحالي وبناء نظام سياسي جديد تتحدد
ملامحه فيما بعد.
بقلم: أحمد حمودي
كاتب وباحث أكاديمي سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق