من الحقول المعرفية التي لا يعرفها إلا الخاصة من الدارسين حقل معرفي حديث النشأة يسمى: الأدب المقارن «comparative
literature»، وهو
كما يعرفه الناقد الأمريكي «هنري رماك»: «دراسة الأدب» خلف حدود بلد معين، ودراسة
العلاقات بين الأدب من جهة ومناطق أخرى من المعرفة والاعتقاد من جهة أخرى، وذلك من
مثل الفنون: «كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى» والفلسفة، والتاريخ، والعلوم
الاجتماعية «كالسياسة والاقتصاد والاجتماع»، والعلوم والديانة، وغير ذلك. وباختصار
هو مقارنة أدب معين مع أدب آخر أو آداب أخرى، ومقارنة الأدب بمناطق أخرى من
التعبير الإنساني». وبمنطق أبسط فإنك تقارن قصيدة عربية بقصيدة فرنسية، ورواية
عربية بأخرى من ثقافات أخرى، وصار بوسعك
أن تبحث عن علاقات التأثر والتأثير بين قصيدة ولوحة تشكيلية، أو قطعة موسيقية، أو
أن تقارن بين عملين أدبيين ينتميان لمدرسة فكرية واحدة؛لم يؤثر أحدهما بالأخر، ولكن
انتماءهما لمدرسة واحدة، يجعلهما يتفقان في البنية العميقة؛ مثل روايتين تنتميان
لكاتبين يعتنقان الفكر الماركسي على سبيل المثال.
في هذه المقالة سنحاول المقارنة بين فيلم
سينمائي وحالة سياسية واقعية، سنقارن بين تجربة «حافظ الأسد و«بشار الأسد» السياسية، وبين فلم «الراقصة والطبال»، وهو فلم
مصري عن قصة الأديب الراحل «إحسان عبد القدوس»،وإخراج «أشرف فهمي»، ومن بطولة «أحمد
زكي»، و«نبيلة عبيد»، وقد أنتج الفلم سنة 1984، ووجه المقارنة هنا يتم بين الحالة
السياسية وفن الرقص.
تمهيد في ماهية الرقص
ارتبط الرقص عند الشعوب البدائية بالدين؛
فكان نوعاً من التعبير عن الشعور الجمعي، كما نلاحظ عند الهنود الحمر و قبائل إفريقيا، الذين يرقصون لشكر الإله على النصر، أو لطلب النجاح في الصيد
أو الزراعة، أو لطرد الأرواح الشريرة، أو لتمثيل حدث حصل في تاريخ قبيلتهم،
إذن انطلق الرقص في بادئ الأمر من حالة
التعبد، حيث كان البشر يرقصون حول النار في طقسهم الوثني التعبدي، ونقرأ أن العرب
كانوا في الجاهلية يرقصون حول الكعبة، وما زالت الأقوام تهتم بهذا الفن، الذي يعبر
عن حالة ترف المجتمع؛ ففي القرون الماضية كانت العائلات المحافظة في البلاد
الإسلامية تدرب الفتيات على فن العزف والرقص، ويطبق في إطار شرعي محافظ فهؤلاء
الفتيات يرقصن للأزواج، وتكون المتعة في التأمل في إيقاعات الجسد، وفن الرقص ليس
مقصورا على النساء، وإنما للرجال فيه نصيب عظيم، فنلاحظ رقصات المقاتلين بعد النصر
في المعارك، وفي العصور الحديثة نجد فرقاً لرقص الرجال في المجتمعات المحافظة
دينيا، فيما يسمى ببلاد الشام بـ«فرق العراضة»، و«الدبكات» بأنواعها، والتي يتفنن
فيها الرجال في إظهار حركات الجسد، ويستمتع المشاهدون بهذه الحركات الإيقاعية،
ويتفاضل الراقصون في الأداء، ويمارسونه بوصفه طقساً للفروسية، فالذي يقود الـ«عراضة»
أو الـ«دبكة» يتمتع بصفات تميزه عن بقية
الراقصين. لقد كان الرقص دائماً يعبر عن حاجة جمالية للمجتمع، قبل أن ينحرف في بعض
أشكاله إلى مثير للغرائز، بعيداً عن أصل وجدانه الجمالي الحقيقي،كما نرى في
الملاهي الليلية.
في هذا الفلم يعمل «أحمد
زكي طبالا في فرقة موسيقية، ولكنه يستشعر في نفسه تميزاً، ويريد تغيير موقع الطبال
الهامشي في الفرقة الموسيقية ليكون هو «المايسترو» المتحكم بإيقاع الفرقة، وتحديدا
يكون التحكم بجسد الراقصة، وعندما فشل في هذا الصنيع مع الفرقة التي كان يعمل فيها،
قرر البحث عن راقصة شعبية يلتقطها من «الموالد)،
ويقوم بتدريبها؛ بحيث يكون قادرا على التحكم بحركة الجسد عبر إيقاعات «الطبلة»،
وكان له ذلك، حيث جلب هذه الراقصة من مكان ناء، وقام بتدريبها لتحويل هذه الحركة
الفوضوية في الجسد إلى إيقاع منظم، وليكون للطبلة الدور الرئيسي المثير للحركة
الجسدية، ويتقدم موقع الطبال من الهامش إلى المركز، كان هدف الطبال «الفنان»
الانتقال الكامل بهذه الراقصة من حالة العبثية في حركة الجسد، إلى الحالة الجمالية، عبر تغيير كامل في الشكل
والمضمون للراقصة، ولكنه استطاع أن يتحكم بالجسد فقط، وعجز عن التحكم بالروح؛
لأنها روح وحشية غريزية،لم تفهم معنى التغيير الذي ينشده منها المعلم، وتمردت
عليه، وعادت لممارسة الرقص بصفته الجسدية المنحرفة، وأصبح الرقصة بوابة للدخول في
كل ما هو غريزي، وفشلت التجربة؛ لأن الراقصة» لا تحمل في داخلها أي معاني إنسانية
حضارية ناضجة.
ووجه المقارنة بين «الراقصة»
و«الطبال» وبين «حافظ الأسد» و«بشار الأسد» متعلق بتجربة الانتقال من الحالة
الهامشية إلى ما هو نوعي متميز .
يعد «حافظ الأسد» من
القادة المؤثرين في القرن العشرين – وهذا ليس مدحا وإنما توصيف – ويمتلك مجموعة من
المواهب، والصفات الاستثنائية، كان المقربون منه يقولون: الرجل كثير الصمت، غير
متسرع بل يعد بطيئا في اتخاذ قراراته، لديه خبرة عميقة في موضوع التآمر على
الأصدقاء قبل الأعداء، ودليل ذلك قدرته على خطف السلطة من بين يدي الجميع، فقد استطاع مع رفاقه في حزب البعث سرقة الحزب
من مؤسسيه.
«ميشيل
عفلق» و«صلاح الدين البيطار» وهم أحياء، وقاموا بطردهم من سوريا عبر انقلاب 1966،
ومن ثم استطاع قتل «صلاح الدين البيطار» في «باريس» 1980، وبعد ذلك انقلب على
رفاقه «محمد عمران » و«صلاح جديد» و«عبد
الكريم الجندي» و«نور الدين الأتاسي» و«يوسف زعين»، و.. و.. إلخ، وانفرد بالسلطة، ووصل
إلى مرحلة أزاح فيها الجميع، ومن يتأمل سوريا ابتداء من ثمانينات القرن الماضي،
يدرك أن هذا البلد أصبح خاويا تماما من السياسيين والمفكرين، ورجال الدين، لم يتبق
في سوريا سوى «حافظ الأسد»، ولذلك استحقت اسم «سوريا الأسد»، أمَّا بقية الكائنات
الموجود والتي كان يطلق عليها مجازا اسم بشر، فهي لا تمارس سوى التناسل وتوجد على
الأرض بيولوجيا فقط، بعد أن قتل «حافظ الأسد فيها الروح والرغبة في الحياة.
لقد كان «حافظ الأسد «طبالاً»
متميزا جاء من الأطراف إلى المركز، بل أصبح هو الدائرة والمركز.
أراد هذا الطبال أن يقوم
بالتجربة نفسها أقصد تجربة الطبال في الفلم؛ فبدأ بتدريب باسل نجله الأكبر، وثمة
أحداث كثيرة تشير إلى ذلك، فحينما حدث الصراع بين «حافظ الأسد» و«رفعت الأسد» بين
عامي 83و 1984 من القرن الماضي، ونشر الرجلان جيوشهما في شوارع دمشق؛ إذانا بحرب
كانت ستدمر المدينة، جرت مفاوضات بين «رفعت» و«حافظ» في بيت رفعت في منطقة المزة»،
وكان «حافظ» قد جلب أمهما التي كانت طاعنة في السن بطائرة من «القرداحة»، وقد بلغت الروح الحلقوم،
فذهب «حافظ الأسد» إلى «رفعت» مصطحبا معه «باسل» ليعلمه أول درس في الحكم وليشاهد
أمام عينيه كيف سيتخلص من أخيه «رفعت»، فكان الدرس الأول، ثم كانت دورة ألعاب
البحر الأبيض المتوسط، وهي دورة رياضة عام 1987م
وقد ظهر فيها «باسل» فارساً تغلب على جميع الفرسان، وسُلطت الأضواء عليه،
وقد اختيرت له لعبة فردية هي الفروسية، يكون التميز فيها فرديا ولما للفروسية من
أثر في الذهنية العربية، حيث يكون الفارس قائداً مرتفعاً، وإلا لماذا لم يكن «باسل»
في تلك الدورة لاعب كرة قدم، أو كرة يد أو جمباز، أو ملاكم مثلا، وفي سنة 1992
ظهرت أزمة التهريب التي كان يقودها «جميل الأسد» وأولاده وإنشاء مجموعات الشبيحة
للتهريب والسرقة، فدفع لها «باسل» وقام بتفكيك هذه الشبكة وزج بأولاد عمه في السجن.
هذه العملية التي يروى أنها كانت سببا في قتله عام 1994.
مات «باسل» وضاع الجهد
في تهيئته هباء منثورا، ولم يتسن لنا الحكم على نجاح عملية التهيئة؛ لأنه كان ينفذ
جميع المهام في ظل أبيه «حافظ الأسد».
كان «الطبال –حافظ» بحاجة إلى «راقصة
جديدة - بشار»، وبدأ الإعداد تعلم بشار» كيف يزيل المنافسين من أمامه ففي هذه
الحقبة من أواخر تسعينيات القرن الماضي أزيل «علي دوبا» ضابط المخابرات الكبير، و«محمود
الزعبي» رئيس الوزراء، ونحي «عبد الحليم خدام» عن جميع مهامه، وسحب منه ملف لبنان،
مات الطبال «حافظ الأسد» ولكنه ظل يحكم من قبره كما يقول السوريون. وأصبح الراقصة «بشار»
رئيسا قائدا. تعلم «بشار» كل فنون
القيادة؛ كيف يتآمر، كيف يصفي أعداءه،كيف يلف ويدور، ولكنه لم يتعلم أن يكون
قائدا؛ لأن هذه القيادة تولد مع الإنسان لا يمكن أن يتعلمها ولذلك نراه يحاول
جاهدا الظهور بمظهر القائد؛ كأن يخطب بشكل مطول أمام الجمهور، ويظهر في الأماكن
العامة.
استطاع «الطبال» أن يعلم «الراقصة»
فن الرقص، ولكنه لم يستطع أن يزرع في داخلها الإحساس الجمالي بالرقص؛ فعادت إلى
حقيقتها إلى الملاهي الليلية، وكذلك تعلم «بشار» كل فنون القيادة، ولكنه لم يستطع
أن يكون قائدا؛ لأنه إنسان عادي والقادة عادة يكونون استثنائيين.
إياس غالب الرشيد
ناقد وشاعر سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق