بسم الله الرحمن
الرحيم
قال
تعالى في كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم
(إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ؛ وآتيناه من الكنوز ما
إنَّ مفاتِحَه لتنوءُ بالعصبة أولي القوة، إذ قال له قومه : لا تفرح إن الله لا
يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن
كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إنَّ الله لا يحب المفسدين. قال :
إنما أوتيته على علم عندي، أولم يعلم أنَّ الله قد أهلك من قبله من القرون من هو
أشدُّ منه قوّة وأكثر جمعاً، ولا يُسألُ عن ذنوبهمُ المجرمون) القصص (78) صدق الله العظيم..
يذخر
القرآن الكريم بالعديد من الآيات البيّنات التي تتحدث عن المصير الثابت للظالمين
المتجبّرين بالهلاك المحتوم في الدنيا، والخزي الدائم يوم القيامة، جزاءً لما
اقترفته أيديهم الآثمة من جور وظلم، والله لا يحب الظالمين.
وهذه
الآيات الكريمة من سورة القصص، تتكلم عن نموذج فاقع من تلك النماذج الظالمة، أنعم
الله عليه بالنعم الكثيرة، فجحد أنعم الله، وبدلاً من أن يستخدم تلك النعم فيما
يرضي الله، ويسعد عباد الله، استخدمها في الظلم والتعسّف والبطر والرياء، فضربه
الله بقوّته المقتدرة، وجعله وأمثاله أحاديث للأولين والآخرين، وعبرة لكل ظالم
متكبّر كفّار …
لقد
ابتدأت مطالع السورة الكريمة بعرض قصة موسى وفرعون،
حيث عرضت فيها قوة السلطان والحكم، وكيف باءت
بالبوار مع البغي والظلم والكفران بالله،
والبعد عن هداه.
ثم
ثنّت بعرض قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف انتهي بالبوار أيضاً مع البغي والبطر
والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق.
وفي
هذه الآيات الكريمات يقرّر الله تعالى حقيقة القيم، فيرخص من قيمة المال والزينة
إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح ؛ داعياً إلى الاعتدال والتوازن في الاستمتاع
بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.
وهكذا
تبدأ القصة فتعين اسم بطلها ( قارون ) وهو يرمز إلى كل باغٍ وجبّار ومتكبّر في أي
زمان ومكان، وتقرّر مسلكه مع قومه وبني جنسه وبني إنسانيّته، وهو مسلك البغي ( فبغى عليهم )
وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء : ( وآتيناه
من الكنوز ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) ..
ولا يذكر النص القرآني صورة محدّدة لهذا البغي، ليدعه مجملاً يشمل شتى
صور البغي، فربما بغى عليهم بظلمهم، واغتصاب السلطة منهم، وتزوير إرادتهم،
والتلاعب بدستورهم، واختطافهم لعشرات السنين، وبيع أرضهم لأعدائهم... !!!
وربما بغى عليهم أيضاً باستعبادهم، وإذلالهم، ومصادرة حريّاتهم ،
وسرقة أموالهم، وتجويعهم، وتحويل وطنهم إلى مزرعة خاصّة له ولعائلته... !!!
وإذا خرجوا إلى الشوارع والساحات يهتفون لحريّتهم المسلوبة، ويطالبون
بكرامتهم المصادرة، سلّط عليهم عصاباته المجرمة، وشبّيحته الفاجرة، لتعمل فيهم
قتلاً واعتقالاً واغتصاباً وتشريداً... !!!
ولقد
انبرى له من الخيّرين الناصحين من بني جنسه وإنسانيّته من يحاول رده عن هذا البغي،
ورجعه إلى النهج القويم، الذي يرضاه الله في التصرف بقوته وثرائه ؛ وهو نهج لا
يحرم الأثرياء ثراءهم ؛ ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال ؛ ولكنه
يفرض عليهم القصد والاعتدال ؛ وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم،
ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب : ( إذ قال له قومه : لا
تفرح إن الله لا يحب الفرحين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك
من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب
المفسدين )..
لا
تفرح .. فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالملك
والمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ على
الدنيا.. !!!
لا
تفرح... فرح البطر الذي ينسي واهب الملك،
والمنعم بالمال ؛ وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران. !!!
لا
تفرح... فرح الذي يعميه الملك، ويشغله المال، فيتطاول به على العباد والبلاد.
(
إن الله لا يحب الفرحين ) .. المأخوذين بالملك
والمال، المتباهين به، والمتطاولين بسلطانه على الناس.
(
وأحسن كما أحسن الله إليك ) .. فهذا الملك والمال
هبة من الله وإحسان، فليقابل بالإحسان فيه كذلك.
إحسان
العدل، وإحسان التصرف، والإحسان به إلى الخلق، وإحسان الشعور بالنعمة، وإحسان
الشكران.
(
ولا تبغ الفساد في الأرض ) .. الفساد بالبغي
والظلم، والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة، والفساد بملء صدور
الناس بالحرج والحسد والبغضاء، والفساد بإنفاق المال في ظلم الشعب، أو إمساكه عن
المحتاجين إليه ( إن الله لا يحب المفسدين )..
(
قال : إنما أوتيته على علم عندي ) ! إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر
النعمة وحكمتها، عندما يفتنه المال، ويعميه الثراء، وتبطره القوّة.
وهو
نموذج مكرر في البشرية، فكم من المغرورين الجهلة من يظن أن علمه وقوّته هما وحدهما
سبب عزّه وغناه، ومن ثم فهو حرٌّ فيما يفعل، غير محاسب على ما يفسد بالمال، ويظلم
بالقوّة ، غير حاسب لله حسابا، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !
وهكذا
فإن ( قارون ) لم يستمع لنداء قومه، ولم يشعر
بنعمة ربه، ولم يخضع لعرف أو نظام أو قانون، وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم،
وفي بطر ذميم، ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية، ردا على قولته الفاجرة
المغرورة :
(
أو لم يعلم أنَّ الله قد أهلك من قبله من القرون من هو
أشدُّ منه قوةً وأكثر جمعا، ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون.!؟ )
ثم
يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على
قومه، فتطير لها قلوب الضعفاء التافهين، وتتهاوى لها نفوسهم، ويتمنون لأنفسهم مثل
ما أوتي قارون، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يشتهيه الغافلون.
في
حين يستيقظ الإيمان في قلوب المؤمنين الراسخين، فيعتزون به على فتنة المال وزينة
قارون، ويذكّرون المبهورين المأخوذين، في
ثقة وفي يقين :
(
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا :
يا ليت لنا مثلما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم ).
( وقال الذين أوتوا العلم : ويلكم.! ثواب الله خير لمن آمن وعمل
صالحا، ولا يلقاها إلا الصابرون ).
وهكذا
وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت...!!!
ووقفت
طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله، والاعتزاز
بثواب الله:
(
قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثل ما أوتي
قارون، إنه لذو حظ عظيم )..
وفي كل زمان ومكان، يستهوي المال والقوّة بعض
القلوب، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها
؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته.!؟
ولا
بأي الوسائل نال صاحب القوّة قوّته.!؟
ومن
ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! يسيل لعابهم
على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا
إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.
فأما المتصلون بالله، فلهم ميزان آخر يقيم
الحياة، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفساً،
وأكبر قلباً من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا، ولهم من استعلائهم
بالله عاصمٌ من التخاذل أمام جاه ( الفراعنة ) و ( والقوارين ).!!!
وعندما يبلغ الظلم والطغيان مداه، وتبلغ الفتنة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس، وتقف الدول والجماعات والهيئات والمنظمات
الإقليمية والدولية، عاجزة عن وقف المذبحة، ولجم الظالم، ونصرة المظلومين.!!!
هنا، تتدخل القدرة الإلهية الجبارة لتضع حداً للفتنة، وتقرّر النهاية
المحتومة للظلم والطغيان..
(
فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من
دون الله، وما كان من المنتصرين ) ..
يا
للعبرة الباهرة، ويا للمعجزة القاهرة..!
هكذا
في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة ( فخسفنا به وبدراه الأرض
) !!!
فابتلعته
وابتلعت داره، وهوى في بطن الأرض التي طالما علا فيها وظلم وتجبّر على ظهرها، وذهب
ضعيفا حقيراً عاجزا...
(فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله) ( لا روسيا ولا إيران ولا حزب الشيطان ولا غيرهم ) ولم
ينفعه جاه و لا مال آل مخلوف كله الذي سرقوه من أقوات الشعب المظلوم...!!! (وما كان من المنتصرين
)...!!!
وهوت
معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله ؛ وكشفت
عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال ( وأصبح الذين تمنوا مكانه
بالأمس يقولون : وي ! كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، لولا أن من
الله علينا لخسف بنا..!!! وي ! كأنه لا يفلح الكافرون ) ..
وصدق
الله العزيز الحكيم القائل : ( تلك الدار الآخرة نجعلها
للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين ) ..
الدكتور أبو بكر الشامي
دمشق : في الرابع من ربيع الأول / 1433 هجري
الموافق : للثامن والعشرين من كانون الثاني / يناير / 2012 ميلادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق