على أطراف
المخيم بين النزوح واللجوء، كان طبيب الإغاثة محاصرا بشح الموارد الطبية وسخاء
الجروح والضحايا. وراح يعيش يومياته
الموجعة في مشفاه، يفر إلى
الحلم من واقع الدم وحصار الموت، وكان
أكثر ما يؤلمه أنه يعجز عن تضميد آلامهم وألامه عندما يعاين بإمكانات محدودة كثير الجروح الفظيعة والكسور الخطيرة وحالات التهشيم
والبتر والقطع والموت لأجساد الشباب والرجال والنساء والأطفال من أهله وأبناء
وطنه. وهناك في مخيم من المخيمات السورية
الكثيرة، التقى بها لاجئة وناشطة وثائرة. وتناول مع أمها وأببها وأخواتها طعاما
شهيا؛ كالذي كانت تطبخه له أمه عندما كان في سوريا، بل طعاما
أشهى وألذ؛ لأنّ له نكهة الاحتفال الطقسي بالأهل في وسط الغربة والحرمان. وهناك في مخيمها، وفي قلب خيمتها علق قلبه وخرج.
وفي قلب المخيم كانت هي تعيش مقاومة الشتات والتشريد
واللجوء. وكانت تهرب، أيضا، إلى الحلم من الذاكرة المحاصرة بخناجر حادة، لها ألم فقدان الوطن واستشهاد الأقرباء المقربين، وتصمد
في مرأى ماتبقى عالقا معربشا على القلب من
مشاهد الهرب و الفرار والقتل والإرهاب. وانزرعت في واقع المخيم قهرا وقسرا حيث أصبح الصمود أمرا لا مفر منه
للبقاء والعيش واستمرار الحياة. وهنا قرر لها القدر أن تلتقي به طبيب الإغاثة
الضاحك من قلبه، فتعلّق فلبها به وبابتسامته تقوى على بؤس الواقع ومرارته...
وجمعهما المنفى. وكتب في مذكراته، وعلى هامش
الحرب العنيفة، قصة حب أقوى من صدأ
الأشياء الموجعة المنغرزة بقوة حتى أعماق القلب؛
كأنها ترديد ناي أو رجع كمان.
وكانا كلاهما قد علق على نجمة الغد دفتر الآمال. حيث يتآكل الفاصل بين صورتين متناقضتين...ذاكرة الموت وحلم
الحياة.
هو طبيب يقلّب يوميا بيديه
دما ء الجرحى ...ويحاول تضميدها بحب وعزيمة. ولم يكن في باله، قبل الثورة أن يتورط
في الحب؛ لكنه حتما ماكان له، بعد الثورة، في حال التفكير بالحب والزواج، أن يبحث
عن امرأة صامتة جبانة مسكينة، ليعلقها كسماعة باردة على مشجب قلبه. أراد امرأة لها
نكهة الثورة. وهي ناشطة في المخيمات،
تساعد اللاجئين، وتدافع عن حقوق أطفال المخيم والشباب والنساء والرجال، تحاول أن تنقل
معاناتهم للعالم؛ فتكتب عن مأساتهم بصبر وشجاعة. الثورة غيرتها. وجعلها التشريد إنسانة أخرى. لم
تعد كما كانت، من قبل، ابنة أهلها الصغيرة
المتفرجة على الحياة من نافذة لها قضبان حماية.. التشرد والمخيم غيراها. وماكانت تفكر بالحب والزواج في ظروف
قاسية كالتي تعيشها. لكنّ الحب جاءها في الزمن الصعب، لكي تحلو به الأيام، وأوقد فيها جذوة الحياة.
وصار اللقاء موعدا وحكاية حب، وللحب مذاقه الناري في زمن العنف والخوف، يولد
طاقة خلاقة... وتعاونا معا. وعملا واتفقا، ثم
وصل اللقاء إلى موعد الزفاف. وعلقت هناك في خيمتها الرمادية ثوب زفافها الأبيض. تتناسى غصّة في القلب، وتحاول أن تبلع حزنها، لكي لا يؤرق فكرها أنّ زفافها
ليس في بيتها، وليس في وطنها ووسط عائلتها الكبيرة، وليس في مقر فرح بهيج. بل زفاف ملفوف بالغربة ووجع التشريد وأحاسيس
النقص والحرمان.
وتحاول أن تطرد شعورا
متناقضا يهزها؛ إذ يؤلمها، كثيرا، أنها ستخرج عروسا من مخيم، وأن
موكب عرسها سينطلق من جراح
المخيم. لن تخرج عروسا من بيت أهلها ومن وحارتها
وأهلها في مدينتها، هناك ومن باحة بيتها الجميل هناك. كما كان فراق الأهل المشردين المغتربين صعبا جدا
بعد طول العناء والتشرد. وكذا فراق المخيم الذي اعتادت عليه وعلى محبته.
ونظرت هنا وهناك
بحسرة. لا خزانة في الخيمة. لا خزتنة كتلك التي كانت في غرفتها
في بيت أهلها في مدينتها المنكوبة الواقعة على خط النار الكثيف. لكن، همست لنفسها بسر سعيد، يظل
للثوب الأبيض جماله الجذاب وإغراؤه. وفعلا
فقد بدا الثوب أنيقا جميلا لما علّقته على حبل أحلامها، وعلقت عليه طموح حبها.
العرس غدا. وهي مستعدة. وأمها تحاول تقديم
الأجمل لابنتها الغالية، وتسعى لإشاعة جو مثالي فرح يحول الخيمة والمنفى إلى طقس
احتفال جميل، .لكنّ لمياه الأمطار والريح خطة
أخرى، وهاجمتا بشدة وبغتة المخيم. وبلا رحمة هاجمتا المخيم. وانقلبت الأمور في
لحظات. ومزقت الرياح الخيم، وسحبت الأشياء من داخلها، وهطلت الأمطار بقوة وطافت
الأرض والخيم. وعم الذعر وثار صخب الصراع لمكافحة العاصفة المجنونة في كل المخيم؛ فقد غرق
المخيم في الماء والفيضان والسيل... وتمزق تحت سياط الريح. وطار الثوب الأبيض وعجنته الريح بالطين والوحل. وأصاب العروس الذعر
والجزع، وانهارت حزينة عاجزة امام مشهد المأساة الجديدة للمخيم قبل يوم من زفافها؛
وفكرا بغضب "كأنه إنذار شؤم".؛ لكنّ أهلها وأصحابها استجمعوا قوتهم وإرادتهم، وأرادوا
أن يمنحوا ابنتهم فرصة الفرح وحقها من
البهجة، وقرروا أن يحتفلوا رغم المياه والدماء ومشهد الكارثة بحفل زفافها،
وأن يصرعوا اليأس.
وأعدّت الأم في اليوم الثاني
مع نسوة المخيم ثوب زفاف أبيض جديد. كان أجمل ثوب لعروس باكية الجفون باسمة القلب.
وارتدته العروس، وهي ترتعش فرحا وقلقا. وراحت تجره خلفها بروح طفوليّة سعيدة.
ولحقها الأطفال واليافعون الذين اعتادوا عليها معلمة وصديقة، وتمسكوا بها. اعتقدوا
أنها ستغادرهم للأبد. أبوها الذي حاول أن يبدي تماسكا مصطنعا لرحيل ابنته ولعجزه
عن توفير حفل وداع في عز وأبهة. بكت ثم
تماسكت، وسرعان ما لف الفرح المكان، سحب منهم كثيرا من الأحزان والآلام. وانطلق العرس الصغير بزغاريد خافتة؛
ضجت في القلوب والأسماع بهجة أقوى
من نوح الريح وأشد من غضب المطر.. وركض
الفرح كحصان عربي رشيق يقطع مدى الحصار لينام على الجفون الحزينة حلما طليقا...
ودخلت العروس وعريسها حياة جديدة في بيت
جديد غير بعيد عن المخيم وعلى مرمى حجر من الوطن. وكانت نار الحياة فادرة على
تدفئة القلوب والأحلام.
إنه البرتقال، موسمه
الشتاء تحت العواصف والأمطار. البرتقال ينمو من دم الأرض ووقع الريح ودمع السماء...
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق