قد يتبادر لذهن القارئ من عنوان هذا المقال
أني بصدد السخرية فيه من اللهجة العلوية التي يميزها استعمال حرف (القاف) أكثر من
غيره والتي باتت تعرف في سورية بلغة (المقاقاة). ولكني بالتأكيد لست بهذا الصدد،
فكل مدينة أو منطقة لها لهجتها التي تميزها، وكذلك هو الحال في كل دول العالم.
طبعاً لاأحد ينكر من جهة ثانية أن وحشية النظام ولصوصيته في آن واحد، والصور
(المفزعة) التي قدمها (الأسد الأب والابن) على أنها تمثل أبناء الطائفة وأوجزتها
في مقالي السابق، قد جعلت من تلك اللهجة المرادف (السمعي) لتلك الصور. ولذلك وبسبب
عدم تمكن الشعب خلال أربعة عقود من مقاومة النظام وإزاحته بالطرق السلمية
والديمقراطية، فقد وجد في اسلوب (السخرية) من هذه اللهجة وأصحابها وتأليف النكات
اللاذعة عنها وعنهم متنفساً طبيعياً وسلاحاً ليس لديه غيره. فالانسان حين لايتمكن
من رفع القهر المفروض عليه، يلجأ لمحاربة خصمة بتحقيره والسخرية منه بأي وسيلة.
حصل في سورية
في النصف الثاني من السبعينيات أن بدأت وحشية نظام (الأسد الأب) وساديته اتجاه
الشعب تظهر أكثر وضوحاً، فصارت صورة (العلوي) موازية لصورة (عزرائيل) أو (غراب
البين)، وأتت مجزرتي (سجن تدمر) 1980 ثم (حماة) 1982 لتكرس تلك الصورة وتجعل صاحبها
في المجتمع السوري رجلاً يتمتع بسلطة مطلقة، من رئيس النظام في القصر الجمهوري إلى
الآذن في الوزارة ومروراً بمن بينهما.
وقد لاحظ الكثير
من السوريين (غير العلويين) في ذلك الوقت مقدار (القوة اللامحدودة) التي وضعها
(الأسد الأب) في أيدي أفراد طائفته، والتي بالرغم من أنها كانت قوة شريرة، ولكنها
تبقى (قوة) أغرت أفراداً من بقية الطوائف بحيازتها، فقرروا حيازتها بواسطة ...
(تقليد لهجة) أصحابها. وكثيراً ماكان يحصل في الطوابير أمام الأفران أو المؤسسات
الاستهلاكية أو مراكز توزيع الغاز أو المازوت، أن ترى من تعرفهم حق المعرفة أنهم
ليسوا من (الجماعة) ولكنهم مع ذلك يدفعون الناس جانباً وهم (يقاقون) ليصلوا إلى
المقدمة ويأخذوا طلبهم قبل الواقفين، دون أن يتجرأ أحد حتى على النظر في أعينهم.
فأصبحت تلك اللهجة أو اللغة مع مفرداتها (موضة) تعلمها الكثيرون وباتوا يستعملوها
بمناسبة وبلا مناسبة لاخافة الآخرين وتحقيق غاياتهم.
وربما لو اقتصر استعمال تلك اللهجة من قبل هؤلاء على طوابير الخبز والغاز وماشابهها
لكانت (نص مصيبة) كما يقولون، ولكنه امتد ليشمل أعمال (احتيال) باتت تمثل مهنة
رسمية في ذلك الوقت. وكانت قد درجت في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات (موضة)
ثانية وهي بيع صور وتماثيل وأقوال (الرفيق القائد) للمقتدرين من التجار وأصحاب
المعامل والشركات، حيث التقيت ببعض الأشخاص في الجامعة وخارجها من أهل دمشق من
السنة الذين كانوا يمارسوها ويفتخرون بها. كانت (عدة النصب) كما قالوا لي هي عبارة
عن تلك البضاعة الرخيصة إلى جانب (اللهجة) التي يكون صاحبها قد تمرن عليها بالقدر
الكافي لارهاب ضحاياه. وروى لي أحدهم أن كل ماكان يفعله هو حمل تلك البضاعة إلى المحال
والشركات حيث يبدأ بمجرد دخوله (بالمقاقاة) معهم وتقديم الصورة أو التمثال كهدية
من (فلان) من فرع المخابرات (الفلاني) وأن (فلان) هذا يتوقع منه (تبرعاً للمشروع الوطني
الفلاني) يوازي مايراه (القيمة الاعتبارية) للصورة أو التمثال. وطبعاً فلن يجرؤ
(الضحية) هنا على دفع مبلغ صغير، وإلا سيتهم بعدم حبه أو تقديره (للرئيس المفدى)
لاسمح الله. وعادة مايكون (اللص) على علم مسبق بامكانية (الضحية) المادية،
وبالتالي فلا يقبل منه إلا مايعتقد أنه يوازي تلك الامكانية.
هذا وكان هؤلاء اللصوص يقومون في أغلب
الأحيان، حماية لأنفسهم، إلى تنسيق أعمال نصبهم مع أفراد يعملون في أفرع المخابرات
مقابل تقاسمهم (الغلة) معهم في نهاية الاسبوع أو الشهر. وقد وصلت هذه الظاهرة إلى
حد أن هؤلاء باتوا يتفاخرون بمدى إجادتهم اللهجة بحيث يتعذر على أحد كشفهم، أو
أنهم ماعادوا يستطيعون التوقف عن استعمالها حتى مع أفراد عائلاتهم، فصارت بمثابة
لغة ثانية لهم وصاروا يعتبرون أنفسهم من متكلمي اللغات الأجنبية المتعددة. ومن جهة
ثانية فان ضحايا أعمال الاحتيال هذه باتوا يعرفون مسبقاً نية زائرهم هذا حين يرون
البضاعة إياها في يده وحين يبدأ بالحديث معهم باللهجة إياها، فيفتحون صناديقهم
ويدفعون (الخوة) بسرعة بلا إضاعة للوقت ويوصون الزائر أن يسلم على صديقه (فلان). وهذه
المصيبة تضاف إلى بقية المصائب التي أفرزها النظام الأسدي المافيوي في سورية، وهي إفساد
الناس أخلاقياً وقتل ضمائرهم لدرجة أنهم صاروا يسرقون حتى اللهجة بهدف سرقة الأموال.
حين كنت تواجه أحد هؤلاء وتسأله كيف يفعل
مايفعله ولماذا، يقدم لك العديد من المبررات مثل: لست الوحيد الذي يقوم بذلك وحلال
على الشاطر وإذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، ثم يختم جوابه مازحاً (قرد ولو، مرقلنا
ياها هالمرة). حساب هذه الحثالة يجب أن لايهمل ويجب أن يكون جنباً إلى جنب مع حساب
أصحاب اللهجة الأصليين ممن صف مع النظام وقتل ونهب الشعب باسمه.
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 4 صفر 1434، 17 كانون الأول، ديسمبر 2012
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق