·
إنَّ
اللهَ يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن .
(الخليفة الراشد عثمان
بن عفان رضي الله تعالى عنه)
·
إن
القانون كالمسافر يجب أن يكون مستعداً للغد ، وأن يحمل بذرة التطور في ذاته. (القاضي الأمريكي
جاردوزو)
لقد برزت فكرة القانون في التاريخ البشري منذ تلك
اللحظة التي نشب فيها الصراع المؤلم بين ولدي آدم ، وما تبعه عبر التاريخ البشري من
صراعات نتج عنها الكثير من الويلات والمآسي ، وهذا ما دفع أصحاب العقول الراجحة
عبر التاريخ للتواضع على بعض الأعراف الأخلاقية بهدف الحد من هذه الكوارث والمآسي
، والوقوف في وجه الأشرار وما ينجم عن أفعالهم من إضرار وتخريب في المجتمع ، وقد
كانت هذه الأعراف هي البذرة التي تولدت عنها فيما بعد فكرة القانون .
وعندما نراجع سجلات التاريخ نجد أن أمم الأرض على
اختلافها قد تواضعت على الاحتكام إلى نوع أو آخر من القانون ، سواء كان قانوناً
سماوياً ، أم قانوناً أرضياً ، لأن الناس وجدوا بالتجربة العملية أنهم في غياب
القانون يعجزون عن المحافظة على وجودهم، بسبب ما ينتاب النفس البشرية من دوافع
الخير ونوازع الشر .
والإنسان كما هو مشاهد معلوم مركب معقد من أهواء
جامحة ، وغرائز نهمة ، ورغبات لا تكاد ترتوي ، وهذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي "كانط"
في كتابه ( فلسفة التاريخ ) إلى القول : إنَّ لدى الإنسانِ مزاجاً غيرَ اجتماعي
يدفعُهُ لتوجيهِ كلِّ شيءٍ على هواه !
ولو أن الإنسان ترك على هذه الحال دون قانون يردعه
ويحدُّ من غلواء شهواته وغرائزه ونزواته لفسدت الأرض ، كما جاء في محكم التنزيل (( وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بعضَهُم ببعضٍ لَفَسَدَتِ
الأرضُ )) سورة البقرة 251 . وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الإشارات إلى
النوازع البشرية السلبية ، منها قوله تعالى (( إنَّ الإنسانَ لَظَلُومٌ كَفَّار ))
سورة إبراهيم 34 ، وقوله تعالى (( إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلوعاً . إذا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزوعاً . وإذا مَسَّهُ الخيرُ مَنوعاً )) سورة المعارج 19 ـ 21 ، وقوله
تعالى (( وكانَ الإنسانُ أكْثَرَ شَيئاً جَدَلاً )) سورة الكهف 54 ، وقوله تعالى :
(( كَلا إنَّ الإنسانَ لَيَطْغى أنْ رآهُ اسْتَغْنَى )) سورة العلق 6 ، وأمثال هذا
كثير في القرآن الكريم .
كما أن الجنس البشري ، حسب تعبير الفيلسوف "هنري
لويس برجسون" في كتابه "السلطة والسياسة" يقع من تطور المخلوقات
الحية في نهاية خط تطور القوة العاقلة ، لا في نهاية خط تطور الغريزة وهذا يعني أن
للغرائز سلطاناً كبيراً على تصرفات الإنسان وتفكيره إلى الحد الذي يجعل هذه
الغرائز في كثير من الأحيان تتجاوز حكمة العقل ، وتفرض سلطانها عليه، ومن ثم فإن
الإنسان لو ترك يتصرف وفق ما يمليه عليه هواه وغرائزه لعاث في الأرض فساداً ، ومن
هنا تظهر أهمية وجود القوانين في حياة الناس ، لأن القانون يضطر الإنسان اضطراراً
ليقدم عقله على غرائزه ، خوفاً من سطوة القانون وعقوبته !
ويعتقد أصحاب المذهب الطبيعي أن الجنس البشري مرَّ
بمرحلة طويلة من تاريخه لم يكن فيها قانون يحدُّ من هذه النزعات ، فكان كل إنسان
يتصرف بما تمليه عليه الظروف في سبيل حماية نفسه وردع الآخرين عن الاعتداء عليه ،
وبطبيعة الحال لم تكن تلك التصرفات خاضعة لمعايير الحق والباطل بالمفهوم الديني ، بل
كانت ردود أفعال هدفها الدفاع عن النفس ، وفي هذا يقول الفيلسوف الإنكليزي جون لوك : ( ولكي يرتدع كل امرئ عن التعدي على حقوق الآخرين
، أو إيقاع الضرر بهم ، وتحترم السنة الطبيعية التي ترمي إلى إقرار السلام وبقاء
النوع البشري ، فقد ترك أمر تنفيذ السنة الطبيعية هذه ، إبان ذلك الطور ، لكل امرئ
بمفرده ، فكان له الحقُّ بمعاقبة الخارجين عن تلك السنة إلى حد يحول دون خرقها ،
إذ لو لم يكن ثمة من يقوم على تنفيذ هذه السنة الطبيعية بحماية الأبرياء وردع
العادين لكانت تلك السنة عبثاً ، شيمة سائر السنن التي تمتُّ إلى شؤون البشر في
هذا العالم ، وإذا كان لأي كان في الطور الطبيعي أن يعاقب مقترف الإثم فلكل امرئ
مثل هذا الحق ) !
ونحن بدورنا نعتقد أن هذه الفكرة ليست دقيقة تماماً
من الوجهة التاريخية ، فنحن نعلم أن الشرائع السماوية قد رافقت البشرية من اللحظة
الأولى التي بدأ فيها تاريخ الإنسان فوق هذه الأرض ، فقد كانت الشرائع السماوية
تتنزل على الناس تباعاً بالأحكام ( أو القوانين ) التي تتطلبها أحوالهم وما يطرأ
عليها من تطورات وما يعتريها من مشكلات ، وتبين لهم العقوبة الدنيوية والعقوبة
الأخروية لكل جُرْم ، أما "القوانين الوضعية" التي أنتجها الفكر البشري
فيبدو أنها تأخرت كثيراً في الظهور ، ومع هذا فإننا نرجح أن هذه القوانين لم تكن نتاج إبداعات فكرية
بشرية خالصة بل كانت نتاج تلك التراكمات القانونية التي اقتبسها البشر من الرسالات
السماوية السابقة ، ومما تواضعوا عليه من قيم ومفاهيم أخلاقية عبر التاريخ ، من خلال تجربة الخطأ والصواب ، والجريمة
والعقاب ، وهكذا راحت تتبلور أشكال مختلفة من القوانين الوضعية حتى أصبح لدينا
اليوم ذخيرة غنية من القوانين التي تحاول تنظم كل شيء .
والملاحظة الأساسية في هذا السياق أن القوانين
البشرية في العصور المتأخرة باتت تقترب بعضها من بعض أكثر فأكثر ، حتى أوشكنا على
الوصول إلى قانون عالمي جامع يضع الجميع تحت طائلة أحكامه ،
وتطرح علينا هذه النتيجة سؤالاً في غاية الحساسية ، إلا وهو : هل يمكن لهذا
القانون الوضعي أن يكون بديلاً عن قانون السماء ؟ نترك الجواب إلى وقفة تالية .
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmaol.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق