"عندما تصبح الشبابيك هي السماء. والأبواب
هي السماء. والسماء هي العري والعراء. والأرض هي الجوع والخواء.لا يبقى للدمع مجرى
يسقيه. ولا يكفي الجرح أن تبكيه. قالشعب سئم الموت والرثاء. ومل النوح و العزاء. قد آن للفعل
أن يمسك الزمام، وللحق أن يخوض المعركة الفصل لصرع
الفصام"
كان الطفل وسط الخيمة التي تفجرت أرضها عيون ماء تحت هطل المطر الغزير. وكانت أمه
الراكضة وسط الماء مشغولة عنه بحمل طفلتها الرضيعة التي لا تقدر على المشي؛ لكنّها لما راته، فجأة ، يتخبّط بين الأمطار والمياه، وسمعته
يصرخ "يا يما هون في بحر كبير. من
وين إجا ها البحر يا يما؟ البحر عم يهجم علينا.
البحر حياخدنا...... يا يما ...تعالي يما خديني من المي" ركضت كمجنونة في الماء الغزير لتمسك بيد طفلها، قبل أن تجرفه سيول
الأمطار. وراحت تصارع االماء والطين
والرياح والصواعق التي تضرب الخيام؛ لكي تصل إليه وسط المياه التي كانت تغطيه حتى
فخذيه . وعندما وصلته شدّ جسمه علىيها
مرتعدا، وصار يصرخ بحنون"نزليني
على ضيعتنا في الجسر. هناك مافي بحر بياخدنا.
هون في بحر كبير بدو
ياخدنا"
هذا الحدث ليس تخيلا...بل حادثة من الواقع
الحقيقي. وهؤلاء بشر حقيقيون من أبناء
سوريا؛ اضطرتهم الحرب لأن يكونوا لاجئين في مخيم في
شمال سوريا.. وذلك لم يكن بحرا. كان
فيضانا حقيقيا أكثر طغيانا من البحر , وفي
نظر الطفل كان خضما رهيبا . وهؤلاء، ليسوا مجرمين، لكي تصيبهم اللعنة والسخطة
فيضيغوا في المأساة.، وليسوا فاسدين طغاة شطوا في إفساد الأرض وعقوا القوانين
الكبرى لتعاقبهم الطبيعة وتغضب منهم وعليهم؛ لكن، لأنّ المستبدين في سوريا مارسوا
بحقهم كل أنواع الترهيب والترويع والإبادة؛ فهربوا بحثا عن ملجأ في مخيم على حدود
الدول الأخرى. ولأن أصحاب القرار القائمين
على مخيمات الدول المتصدقة، لا يبالون كثيرا بأرواح هؤلاء اللاجئين؛ فهم، بحسب
اعتقادهم وفعلهم، مجرد لاجئين, وتكفيهم خيمة ولقيمة عيش. ويمكن تأجيل إصلاح الخيمة
وإعداد المخيم لفصل الشتاء شهرا ؛ فعناصر السلامة تليق بالحضر وسكان العمارات
والمدن أكثر من سكان الوبر والخيم والمشردين، حتى وإن كانوا طارئين على الخيم
والشتات والنزوح؛ بغد أن كانوا أبناء الحضر. فلا يعني القائمين على الأمر إلا الصورة الجميلة الظاهرة للعالم، لا الحقيقة
مهما كانت ملحة؛ لأنها فاضحة. ومع ذلك فشل
غباؤهم في تجميل الصورة ....وراى العام غرق المخيم؛ لكنه اكتفى بالبكاء.
وبعد أيام معدودات، في مخيم سوري آخر
بعيد عن ذلك المخيم الشمالي في
أقصى الجنوب خارج البلد. ..حملت الأم اللاجئة
طفلها بين يديها المرتعشتين. كان كقطعة جليد متيبسة. مات أمام عينيها وفي
حضتها بسبب البرد. حاولت أن تدفئه، لكن
جسدها كان أيضا باردا، فلم يسعفها لحماية وليدها. حتى حبها الكبير لم يكفه ليعيش ويصمد في مخيم برد شديد. فليس معهم، هناك، ما يقاومون
به البرد إلا الدعاء والنداء والصمود و تلاصق
أحسادهم، وحركاتها لتحمية الدماء اتقاء الانهيار تحت البرد وفي صقيع الصحراء. ..هنا لا بحر مخيف. كثير من الريح
والبرد ورمال الصحراء، وكثير من انعدام الدفء والنار...
فلا موقد. و لا حطب. حتى الملابس والأغطية لا تكفي. وعلى صدر الأم توفي الصغير ـ وتوفي معه في حضن أمهات أخريات اثنان غيره. ثم توفي طفل ثالث، بعد يومين.
نعم. في الشتات تتسع دائرة هدر الحقوق. والظلم يشتد.
فلا مساءلة. لا رحمة. وأحاسيس الشفقة مؤقتة وعابرة. وفي كل المخيمات الممتتدة من الشمال إلى الجنوب
إلى الشرق، تخلع الإدارة عن نفسها كل تهمة
أو تقصير وتنفي مسؤوليتها عن الموت والعذاب والبؤس...ويصبح المريض أو الميت قهرا وجوعا وبردا وغرقا هو المتهم وهو
الضحية التي يكم فم المطالبة بحقها.
لكن الشتات ليس في الخارج فقط؛ فهو على امتداد
الوطن كله. نزوح وخوف وعراء. وفي كل يوم دمار وهلاك لايتوقفان.. غارة حربيّة
تشنها طائرة عسكرية نظامية على الأطفال والنساء والرجال في حي يعجّ بالناس. ثم على
المدارس والملاجىء والمزارع وعلى معصرة للزيتون مكتظة بالمزارعين؛ فتلقى القنابل
العنقودية والفراغية والفوسفورية، وتقتل الآمنين وتحرقهم وأرضهم. وعلى مدار اليوم يموت الأطفال أمام أعين أهليهم...ويموت
الأهل أمام أعين أولادهم...والعالم صامت يتقاعس عن أداء واجبه الأخلاقي، ويتردّد
في تقديم الغوث والإنقاذ؛ كأن هؤلاء الأطفال ليسوا أطفالا يستحقون الدفاع عنهم. أو كأنّ هؤلاء البشر ليسوا بشرا،
يستحقون كرامة الحياة وشرعية الوجود.
العالم كله لايبالي ، وتعمى أبصاره عن صورة مأساتهم في كل
مشاهدها. ولا تتبوأ صورة طوابير الخبز التي يصطف فيها الأطفال في أدوارهم ليشتروا
الخبز، ويتحولوا إلى أهداف للطائرات الحربية، تقصفهم وتحوّلهم إلى أشلاء موقعا مهما في أولوياتهم ونجدتهم
نعم هي خيمة وشتات ونزوح
وجوع وبرد، ووطن يخنفه موت مريع وإبادة مخفية، وبشر يحاولون أن يثبتوا ويصمدوا أمام البرد الشديد
والريح العاتية، والجوع الكافر، يقاومون الحرائق والقصف والتفجير. ونعم
أيضا أنّ العالم، كلّه، لا يعنيه من ذلك إلا خوفه على إسرائيل وعلى
مصالحه الاستغلالية، قد عجز عن تضميد الضمير الذي امتلأ بأثخن الجراح؟
ألا يحرك الضمير
والفعل كل هذا الدمار والإبادة والترشيد وتفتيت الوطن وتهشيمه؟ أمازال هناك متسع للفرجة والتأمل
وتأجيل الأفعال ألم يحن الوقت للكف عن
الصمت و الانقسام والصراع على الزعامات والمصالح والمقامات .الأمر أصبح
استحاقا تاريحيا وأخلاقيا لا مفر منه
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق