في طبق الفخّار أمامي حبات الزيتون الأسود. وقطع
الجبنة البيضاء المقلية الشهية محاطة بالبقدونس الطازج. وكرات اللبنة المغمسة
بالزيت والنعناع. ووعاء من الزيت والزعتر وسلة من الخبز المسخن وكوب من الشاي
الساخن... وفطورعائلي شهي آمن في صباح
ممطر. وموقد يشيع الدفء في البيت، يتراقص أمام النافذة التي يغسلها المطر. ونجتمع نشاهد
الأخبار باهتمام، ونتابعها بجديّة؛ فنحزن ونغضب ونشتم، ونتوقع ونحلل. وأحيانا نبكي
بيأس. وأحيانا نهرع إلى الحواسيب؛ لنبحث عن خبر جديد وقصص جديدة؛ فنقرأ آخرالأخبار
وما استجد من التعليقات على كل الصفحات الالكترونية التي نعرفها أو نكتشفها حديثا ....
ومع مشاهد الجرائم
الإنسانية بحق شعبنا، ومع الخوف والقلق، يصيبنا
مهديء قوي اسمه التأنيب ولعنة الضمير وجلد الذات والآخر، بكثير من الألم والوجع
والسكون المطمئن... وربما نتحمّس وطنيّا ونشارك في دعم الثورة، وقد نسهم في التعليق الإعلامي ، ولعلنا نندفع
ونهرول لنحضر مؤتمرات ولقاءات ونرسل إغاثات ومعونات. وربما يصبح بعضنا في أحزاب المعارضة،
ويطلق على نفسه وجماعته ومنبره وكتله أو حزبه أو تجمعه أو تحالفه اسما جديدا
رنانا، يعتقده سبقا سياسيا. وتزداد أعداد المعارضة، حتى يصبح مصطلح المعارضة طريقا
واسعا، يضم معارضة النظام، ومعارضة أخرى لفصائل
معيّنة في الثورة السورية تحت مسميات الإرهاب والتعصب. لكنّه، كلّه، حراك لا يتجاوز موقعه. وأحيانا هو بلا جدوى. وغالبا
هو بين ثرثرة وأحكام جاهزة وولاءات وشلل وبيوتات ودكاكين. كأنما نحن في موقف آخر من الثورة.
وعندما
أتابع منظر طعامي وأتابع نفسي وأنا أتناول فطوري من دون ضجيج أو خوف أو قلق، وبلا
حرمان، وأتخيل غيري من أصدقائي، أو غيري من أهلنا المرابطين في المعركة؛ أتساءل: كيف
نأكل طعامنا ونشرب شرابنا وهم بلا طعام أو ماء؟ كيف ننام بدفء وعلى فراش وثير حتى وإن
غالبه الأرق، وهم بلا شيء في أحيائهم المحاصرة بالجوع والظمأ والبرد؟ هوة سحيقة
تفصل بيننا... نمارس الثورة عن بعد، بل قد نتقن أدبياتها، وقد نعلن بشجاعة مواقفنا من نظام الأسد؛ لكننا، مع
كل ذلك، لا نعيش في دوامة الخطر، ونكتفي
بأن نشم رائحة الدماء من مساحة مسافات، وبأن نسمع عبر وسائل الإعلام صرخات
المنكوبين والمفجوعين والمعذبين والذين يحتضرون.
نحن في
أمان من سكاكين الذبح ورصاصات القنص وحبال
المشانق والخوازيق وألغام الحرق، حيث لا قذائف ولا قصف ولا معتقلات مسعورة
بالجرائم. لذلك علينا أن نصمت، كثيرا، عندما يتكلمون هم بصوت المعركة. وعلينا أن
نبذل جهدا كبيرا لكي نقدم جزءا مما يقدمون. وعلينا أن ندعمهم يعملون من دون أن
نشوش عليهم بنقيق ثرثرة، ومن دون أن نتاجر بمعانتهم.
إذا عجزنا عن حماية الوطن بالكفاح المباشر،
بسبب ظروفنا المختلفة؛ فلنكافح بشكل آخر، حتى أقصى ما نستطيع: نطعم الجائعين الذين
يقتاتون كسرات الخبز، ونكسو العراة المرتجفين تحت البرد والسماء العاصفة. نسعف
الجرحى ونغيث المحتاجين. نقدم لأطفالنا وشبابنا ما يساعدهم ليتعلموا ويطلبوا المعرفة.
نوثّق كل الأحداث والأفعال. نمدّ الأحرار بالمال والسلاح. يكفينا تعويلا على المعارضة وأبطالها الضاحكين
والغاضبين. ويكفينا هدر وقتنا بنقدها. المعارضة منتفخة بسرطان خبيث مستفحل.
فلنتركها تفرّغ أحمال قيحها وعفونتها بعيدا عن عطائنا.
التعاطف مع الثورة السورية مهم، لكن ليس فقط
بالكلام. يلزمنا أن نكون واقعيين في فهم الممكن
وفهم ظروف الثورة، وعدم تحميل الثورة ثقل أخطائنا التي أسس لها زمن طويل من الاستبداد
والجهل والفساد والتآكل. الثورة كشفت عن
عوراتنا. كأنها كشفت الغطاء عن بئر عميقة
ملآى بالماء، وملأى أيضا العفونة والرجس. وعندما تنتقل من عفونة طويلة؛ فلابد أن نحتاج
لوقت، لكي نستفيد من ضوء الشمس الساطعة ومن تنقية الماء؛ لكي تطهرنا. وهذا التطهير لا يحدث إلا
بالدم وببذل الروح. نتعمد بدمائنا وسخاء أفعالنا. ومن يكتفي منا بالفرجة أو الصمت،
لن يناله شرف التطهر، ولا بسالة التجربة.
أما الذين يتاجرون بالثورة ويتعربشون عليها؛ فأولئك لهم وقتهم ليسقطوا. وسوف
يسقطون مثلما سيسقط نظام الاستبداد المجرم.
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق