قبل أن يهئ انقلاب الثامن من آذار 1963
الطريق للأسد الأب لينقض على الحكم بعد عدة سنوات، كانت صورة العلوي في المجتمع
السوري هي صورة الرجل الريفي البسيط والفقير والمستغل من قبل العائلات الثرية من
كافة المكونات الباقية. لاشك أن هذا خلق بطبيعة الحال كراهية وحقداً من العلويين اتجاه
بقية أطياف المجتمع السوري وخاصة الأغلبية السنية منه. ولكن يجب أن لايغيب عن
الذهن أيضاً أن الطائفة العلوية ساعدت بحد ذاتها على تكريس تلك الصورة وعلى ذلك
الوضع المزري والشاذ لها كونها اختارت دائماً أن تعزل نفسها في جبال الساحل
العالية بعيداً عن بقية شرائح مجتمعها المتعدد الأطياف.
وأعتقد أن أحد
الأسباب الرئيسية لعزلها لنفسها طواعية هو من جهة معتقداتها (الغرائبية) وعلى
رأسها إيمانها بألوهية الحاكم البشري ووجوب الخضوع والسجود له، مما أدى إلى
تكفيرها في مجتمع لايمكن تجاهل قاعدته الدينية. ومن جهة ثانية فكان هناك الشعور
بالكراهية المتبادلة بينها وبين الأغلبية بسبب تعاونها مع غزاة سورية على مدى
القرون السابقة، من الغزو المغولي إلى الحملات الصليبية إلى الانتداب الفرنسي.
على كل، وإذا أردنا أن ننسى كل ذلك باعتباره
إما (من الماضي) وإما (حرية شخصية)، فقد لاحت فرصة ذهبية بعد الاستقلال أمام تلك
الطائفة لأن تحسن وضعها عن طريق التحصيل العلمي والعمل الجاد الذي أصبح متاحاً
للجميع. وهي فرصة أتيحت لها ولكافة شرائح الشعب السوري لأول مرة في تاريخه بعد دخوله
تجربة الحياة الدستورية وتحرره من احتلال خارجي دام لقرون، فرصة تأملت الطبقة
الفقيرة أن تتمكن خلالها من الانتقال إلى الطبقة المتوسطة. ولكن ولسوء الحظ فلم
تمهل الانقلابات العسكرية الجمهورية الفتية طويلاً، فسرعان مابدأت بمسلسلها
الدرامي قاضية على كل أمل وضعه الشعب أمام عينيه ومغرقة البلد في متوالية من الدم
والعنف.
ثم لاحت للعلويين فرصة ثانية لتحسين أوضاعهم
الاقتصادية وصورتهم السلبية في المجتمع السوري حين وصل (الأسد الأب) إلى الحكم عام
1970. فقد بدأ بداية لم تكن سيئة حين نكل برموز النظام السابق الذي كان مكروها من
كافة أطياف الشعب. ثم عزز تلك البداية بدخوله حرب تشرين ضد إسرائيل عام 1973 ليقنع
الشعب من خلالها أنه جاد في استرجاع الجولان المحتل الذي كان هو شخصياً المسؤول عن
ضياعه خلال حرب حزيران عام 1967 حين كان وزيراً للدفاع. إذاً وحتى تلك المرحلة
كانت الأمور تسير بشكل حسن وكان الشعب قد بدأ فعلاً بتغيير نظرته للعلويين وبدأ
يعتقد أنهم يمكن أن يكونوا حقاً من المشاركين في بناء المجتمع السوري والمفيدين
له، لا من أعدائه ولا ممن هم عالة عليه.
ولكن يبدو أن (الأسد الأب) كان حينها قد
استعمل كافة أقنعته الجميلة، وبات عليه البدء بتنفيذ مطالب من أوصله إلى الحكم.
فاضطر بعد حوالي السنة إلى خلع قناع (القائد الملهم) ليدخل إلى لبنان لتصفية
المقاومة الفلسطينية لصالح إسرائيل مقابل السماح له بالبقاء واحتلال البلد الجار.
هنا بالذات فهم الشعب السوري حقيقة الرجل وفهم أنه ليس بأكثر من ديكتاتور دموي
مهمته الرئيسية حماية إسرائيل، وله مقابل ذلك أن يفعل مايشاء. وكما ذكرت في مقال
سابق، وبالاضافة لمعارضة أغلبية الشعب له، فقد عارضه أيضاً قسم من طائفته نفسها،
إما لأسباب إجتماعية أو سياسية. ولكن هذا القسم كان صغيراً وضعيفاً بحيث لم يسمعه
إلا القلائل، في حين أن القسم الأكبر من الطائفة وقف معه إما طمعاً في الجاه
والامتيازات وإما جهلاً وقصر نظر وإما حقداً وكراهية.
هنا وفي تلك الأجواء المشحونة يبدو أن
(الأسد الأب) كان قد قرر إعادة رسم صورة العلوي في المجتمع السوري وتقديمها في عدة
نماذج الهدف الرئيسي منها هو إرهاب الشعب وتحييده ليقوم هو بتنفيذ مهامه المعلنة
وغير المعلنه. وقد رسم تلك الصور ببراعة بحيث تجعل من الاستحالة على أي منهم بعد
ذلك أن يكون مقبولاً في المجتمع السوري وبالتالي تجعله لايفكر بالانشقاق عن مملكة
الأسد ولابالتصالح مع الشعب. أي أنه أحرق بتلك الصور كل مراكب طائفته وربط مصيرها
بمصيره وجعلها لاتفكر بالتخلي عنه، فتكون إما معه وهو في القمة وإما معه إلى
الهاوية.
الصورة الأولى
(والأهم): صورة رجل المخابرات الجلاد الذي لايعرف الرحمة ولا الانسانية. وقد رسم هذه
الصورة لتكون أقرب ماتكون للمسخ منها إلى الانسان.
الصورة
الثانية: صورة ضابط الجيش صاحب الرتب والنياشين البراقة والسلطة المطلقة. وأقنع
الرجل في هذه الصورة أن علوياً برتبة ملازم أفضل حتى من أي لواء من بقية الطوائف
وخاصة السنية.
الصورة الثالثة: صورة (الأزعر) الهمجي المدجج بالسلاح الذي ينتمي
لميليشيات النظام مثل سرايا الدفاع أو الصراع أو الحرس الجمهوري أو الشبيحة والذي
لايجرؤ أحد حتى على النظر إليه وهو يمشي في الشارع.
الصورة
الرابعة: صورة الوزير أو المدير العام أو الصانع الحقيقي للقرار في الجهات المدنية.
وهو رجل لايختلف كثيراً عن سابقيه من حيث عدم الكفاءة بل والجهل التام بما يقوم
به.
الصورة
الخامسة: صورة المثقف من عميد الكلية أو مدير المعهد المتوسط أو الدكتور المدرس.
وقد أوصى هؤلاء أن يتوصوا بأبناء الطائفة بالبعثات والمنح وأن يتركوا الفتات للآخرين.
الصورة
السادسة: صورة رجل أعمال القطاع الخاص صاحب الثراء الخيالي الذي ينهب ثروات البلاد
ويستأثر بمشاريعها التجارية العملاقة، وقد خص بهذه الصورة أسرته والمقربين منه
حصراً.
الصورة
السابعة: صورته هو شخصياً مع أفراد أسرته. وقد رسمها ليس لتكون قريبة من صور الرسل
والأنبياء فقط، ولكن لتكون أقرب إلى صور الآلهة، وهي صورة تتوافق مع معتقدات
طائفته على أي حال.
وقد أوصى (الأسد الأب) أصحاب هذه الصور بأن
ينهبوا ويسرقوا مايريدون، وأن ينكلوا ويفعلوا بالشعب مايريدون، وأن أكثرهم لصوصية
وأكثرهم إجراماً هو أعزهم إليه وأقربهم إلى قلبه.
لاشك أن هذه الصور التي رسمها (الأسد الأب)
ثم (الابن) للعلوي على مدى الأربعة العقود الماضية رسخت في ذهن بقية الشعب السوري
وستبقى لأجيال طويلة، فهو إما (جلاد) وإما (لص) وربما كليهما. أما صورة العلوي
المعارض والمقهور مثله مثل بقية الشعب السوري فقد عمل على إخفائها لتبقى مجهولة أو
باهتة لدرجة أن أغلبية الشعب لاتسمع بها. ولذلك فحين كنت ماأزال أعيش في سورية، ويحصل
أن أقابل علوياً (من المحسوبين على النظام) ويبدأ بالحديث عن (الصورة) التي ينتمي
لها، كنت دائماً أنظر في عينيه وأسأله في نفسي: هات من الآخر، من أي فئة أنت:
اللصوص أم الجلادين، أم من الاثنين؟ الفرق اليوم أن الشعب السوري يطرح عليهم نفس
السؤال ولكن بصوت مرتفع لأن وقت الحساب قد آن ووقت الصمت قد مضى.
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 26 محرم 1434، 10 كانون الأول، ديسمبر 2012
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق