·
إن كل مجتمع لا تضمن فيه الحقوق ، ولا تفصل فيه
السلطات ، إنما هو مجتمع بلا دستور ! (إعلان الثورة
الفرنسية)
في أحد الأيام كان الفيلسوف الإغريقي هيراقليطس يلعب النرد مع الصبيان
على قارعة الطريق عندما مرَّ به بعض الساسة الكبار ، فتعجبوا من أمره ، وسألوه : لماذا
تفعل ذلك أيها الفيلسوف المبجل ؟! فأجابهم بسخريته المعهودة اللاذعة : وما يدهشكم
في هذا أيها الأغبياء ؟! أليس هذا أفضل من اللعب بالسياسة معكم ؟
ووصف أحد الصحافيين الفكهين رجال السياسة وصفاً لا يخلو من الطرافة اللاذعة
فقال: إن السياسي أشبه بالقرد الذي يتسلق الشجرة ، فهو كلما ارتفع أكثر كلما
انكشفت سوأته أكثر !
وكان للفيلسوف
أفلاطون طموحات سياسية مبكرة ، لكنه بعد أن رأى إعدام معلمه الكبير
سقراط اقتنع اقتناعاً عملياً بأن السياسة غير صالحة لأصحاب الضمائر ، فتحول على
الفور إلى التعليم والفلسفة وطلق السياسة طلاقاً بائناً إلى غير رجعة !
هذه هي بعض المواقف والنظرات الفلسفية المغرقة في شكها وريبتها بسلوك
الساسة والحكام وهي بلا ريب مواقف ونظرات تنطوي على الكثير من الحقيقة ، فقد يكون
اللعب مع الصغار والاستمتاع ببراءتهم وابتساماتهم العذبة كما كان يفعل هيراقليطس أكثر
جدوى من ممارسة السياسة ، وأكثر أماناً وسلامة من التعامل مع أهل السياسة الذين لا
يتورعون عن ارتكاب أشنع الحماقات ضد معارضيهم حتى وإن كانوا من أقرب المقربين
إليهم ، وذلك في سبيل بقائهم في سدة الحكم والمحافظة على "الكرسي" !
والسياسة في تعريفها البسيط هي فن ممارسة الحكم ، وقد نشأت حاجة المجتمعات
البشرية إلى من يحكمها بعد توسع المجتمع البشري ، وتداخل مصالح الأمم ، وتضارب هذه
المصالح وتعارضها ، وما نشأ عن ذلك كله من صراعات وخلافات بين الناس ، وهذا ما جعل
الحاجة ماسة لوجود شخص أو جماعة تعمل للمحافظة على حالة الأمن والسلام بين الناس ،
وهكذا ظهر أهل السياسة على الساحة .
وقد شهد تاريخ السياسة العديد من النظريات والفلسفات والمذاهب السياسية ، وتزخر
المكتبة السياسية بآلاف الكتب القديمة والحديثة ، منها تلك الكتابات الأدبية ذات
الصبغة السياسية التي خلفها فيلسوفنا العربي ابن المُقَفَّع في القرن
الثامن الميلادي ، الذي خلف لنا تراثاً أدبياً سياسياً ثرياً يضم العديد من الكتب
ذات الصبغة السياسية اللاذعة ، من أشهرها كتابه "كليلة ودمنة"
الذي تحدث فيه على لسان الحيوانات عن مسؤولية المثقف تجاه الأوضاع السياسية
والاجتماعية ، وكتابه "رسالة الصحابة" الذي تحدث فيه عن بطانة
الحكام ، وعرض فيه خطته السياسية الإصلاحية التي تتناول أربع مسائل سياسية محورية
تتعلق بأهم أربع مؤسسات في الدولة ، هي : المؤسسة العسكرية ، والقضاء ، وبطانة الحاكم
، والإصلاح الزراعي ، وقد عرض ابن المقفع في كتبه المختلفة الأسس والنظم والمُثل العليا
اللازمة لتصحيح الأوضاع السياسية والاجتماعية المتدهورة ، وبيَّن واجبات كل فئة من
فئات المجتمع في بناء الدولة ابتداء من الحكام إلى أدنى فرد في الرعية ، وهذا ما
أثار عليه حفيظة الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الذي توجَّس منه خيفة ، وخشي أن
تثير مؤلفاته عامة الناس ، فأمر واليه في العراق أن يسكته نهائياً ، ففعل دون تردد
!
ومن الكتَّاب والفلاسفة والمفكرين الذين تعرضوا بإسهاب للحديث عن السياسة
العلامة ابن خلدون الذي خصص فصولاً مطولة في "المقدمة"
للحديث عن السياسة كما قدمنا ، ولاسيما منه الباب الثالث من الكتاب الأول الذي
تناول فيه الحديث عن ( الدول العامة والمُلْك والخلافة والمراتب السلطانية وما
يعرض في ذلك كله من الأحوال ) ، ومنهم فيلسوفنا الفارابي الذي ناقش جانباً
مهماً من الممارسات السياسة ، وهو الشورى ، أو الديموقراطية حسب مصطلحاتنا
المعاصرة ، وذلك في كتابه الشهير ( المدينة الفاضلة ) الذي وصف فيه حياة هذه
المدينة قائلاً: ( .. فأما المدينة الجماعية فهي المدينة التي كل واحد من أهلها
مُطْلَقٌ مُخَلَّى لنفسه يعمل ما يشاء ، وأهلها متساوون وتكون سُنَّتُهم أنْ لا
فضل لإنسان على إنسان في شيء أصلاً ، ويكون أهلها أحراراً يعملون ما شاءوا ، ولا
يكون لأحد على أحد منهم ولا من غيرهم سلطان إلا أن يعمل ما تزول به حريتُهم ، فَتَحْدُث
فيها أخلاقٌ كثيرةٌ وهمم كثيرة وشهوات كثيرة والتذاذ بأشياء كثيرة لا تحصى كثرة )
.
وعن أهل هذه المدينة يقول الفارابي : ( ويكون أهلها طوائف كثيرة متشابهة
ومتباينة لا تحصى كثرة ، فتجتمع في هذه المدينة تلك التي كانت متفرقة في تلك المدن
كلها ، الخسيس منها والشريف ، وتكون الرئاسات بأي شيء اتفق من سائر تلك الأشياء
التي ذكرناها ، ويكون جمهورها الذين ليست لهم ما للرؤساء مسلطين على أولئك الذين
يقال فيهم إنهم رؤساؤهم ، ويكون من يرأسهم إنما يرأسهم بإرادة المرؤوسين ، وإذا
استقصى أمرهم لم يكن فيهم في الحقيقة لا رئيس ولا مرؤوس ) وهذا كما نرى هو
أقرب وصف للنظام الديمقراطي المعروف حالياً في معظم دول الغرب ، حيث يعد الحكام
هناك مجرد موظفين منتخبين من قبل الشعب ، ولا يجوز لهم البقاء في مناصبهم إلا
لفترة معينة يحددها الدستور ، فإذا انقضت الفترة تنازلوا عن مناصبهم إلى غيرهم
بهدوء ودون صخب ولا احتجاج ولا اعتراض.
والواقع أن المسلمين الأوائل أدركوا هذا المعنى في ممارسة السياسة قبل
أوروبا بقرون طويلة ، بدليل أن فقهاء الإسلام أطلقوا على الأمير وصف الخليفة
إدراكاً منهم بأن الأمير في الإسلام ليس سوى نائب عن صاحب الشريعة ، وأنه مستخلف
في الرعية ليقيم شريعة الله عزَّ وجلَّ في الأمة ، فإذا لم يفعل فَقَدَ حقَّه في
الخلافة وجاز للرعية أن يعزلوه .
وقد شهد تاريخ السياسة
مذاهب شتى في فلسفة السياسة وتبرير أساليبها وإضفاء المشروعية على وسائلها
ومناهجها المختلفة ، ولعل من أشهر تلك المذاهب السياسية في العصور المتأخرة مذهب (
المكيافيلية ) الذي أسسه السياسي المؤرخ الإيطالي نيكولا مكيافيلي الذي شارك
في مطلع حياته بالعمل السياسي ، لكنه لم يلبث أن اعتزل السياسة لما وجد فيها من
مكائد وسقطات ومهالك لا أول لها ولا آخر ، فتفرغ للتأليف ، واشتهر في دنيا السياسة
بكتابه "الأمير" الذي نشره عام 1513 وحاز بسببه شهرة واسعة في
شتى أنحاء المعمورة ، وقد أهداه إلى حاكم فلورنسا من آل مديتشي ، وأيد فيه
نظام الحكم المطلق ، وزيَّن فيه للحاكم استخدام مختلف الوسائل الشريفة وغير الشريفة
، المشروعة وغير المشروعة من أجل ضمان حكمه وبقائه على رأس الدولة، على أساس أن (
الغاية تبرر الوسيلة ) ، ومن هنا صار مصطلح "المكيافيلية"
وصفاً لكل مذهب سياسي لا يتورع عن أي سلوك يضمن استمراره في السلطة ، وكأن السياسي
مهما كان نبيلاً قبل انهماكه بالعمل السياسي فإنه ما إن يمسك بالسلطة حتى يجد نفسه
مضطراً ـ أو هكذا يبرر لنفسه ـ للتنازل عن مبادئه واحداً بعد الآخر ، وثم لا يجد
حرجاً في فعل كل الأمور الكريهة التي كان يرفضها عندما كان على براءته الأولى قبل
أن تدنسه السياسة !
غير أن مكيافيلي بعد حين تراجع عن هذا المذهب لما رأى من جرائم ترتكب باسمه
، وألف كتابه الآخر بعنوان "المقالات" أو الخُطَب ، الذي عارض
فيه كتابه الأول ، وأيد النظام الجمهوري القائم على سيادة الشعب ، وعدَّد فيه مزايا
هذا النظام وفضَّله على النظام الملكي الوراثي ، وربما تعود هذه الرِّدَّة الفكرية
من مكيافيلي إلى ما شاهده من نتائج فظيعة لتطبيق أفكاره السابقة على أرض الواقع !
وهناك مذهب سياسي آخر ظهر في تاريخ السياسة هو الطوباوية ( Utopia ) وهي في إطار السياسة تعني "المدينة الفاضلة"
أو الفردوس المفقود ، إذ تعبر عن نظرة مثالية للممارسات السياسية في المجتمع ،
وقد اشتهر هذا المصطلح في السياسة منذ أن أصدر المفكر السياسي الإنكليزي توماس مور
كتابه "يوتوبيا" الذي تحدث فيه عن النظام الأمثل للدولة ، وهو نوع
من الحكم يختلف كل الاختلاف عما عرفته إنكلترا أو غيرها من أمم الأرض ، وقد تخيَّل
هذا المفكر في هذه الدولة إلغاء المُلْكيَّة الفرديَّة ، وجعل أموال الدولة كلها
مشاعاً لأفراد الرعية الذين يعيشون أساساً على الزراعة مع بعض الحِرَف الضرورية ،
والعمل إجباري على جميع المواطنين بشرط أن لا يتعدى 6 ساعات يومياً لكي يتبقى
للناس متسع من الوقت للاشتغال بالأمور الروحية ، أما اختيار القادة والأمير أو
حاكم الدولة فيكون عن طريق نظام انتخابي معقد، وكذلك اختيار الذين سوف يكرِّسون
أنفسهم للعلم ، أما النظام الأسري في هذه الدولة المثالية فيقوم على أساس الزوجة
الواحدة ، وكل ما ينتجه الأفراد يُسَلَّم للدولة ، ويحصل كل رب أسرة على ما يحتاج
إليه من مخازن الدولة ، والنساء متساويات تماماً مع الرجال في كل شيء .
وقد سبق لفيف من المفكرين إلى الكتابة في الطوباوية منهم الفيلسوف اليوناني
أفلاطون في كتابه "الجمهورية" والقديس أوغسطين في كتابه "مدينة
الله" والفيلسوف العربي الفارابي في "آراء أهل المدينة الفاضلة"
كما ألف فيها بعد ذلك كثير من المفكرين ، منهم الإيطالي تومازو كامبانلا في كتابه "مدينة
الشمس" وفرانسيس بيكون في كتابه "أطلنطس الجديدة"
وهربرت جورج ويلز في كتابه "يوتوبيا حديثة" إلا أن هذه المدينة
ظلت إلى يومنا الحاضر مجرد حلم وردي يداعب أهداب الفلاسفة وقلوب المعذبين في الأرض
ولم تر النور في أية بقعة من بقاع الأرض .. ذلك أن الحلم شيء والواقع شيء آخر !
والطريف أن اليوتوبيا التي حلم بها الكثيرون على مر الزمان تبقى جميلة إلى
اللحظة التي تتحقق فيها ، لأنها حين تتحقق على أرض الواقع تتحول على الفور إلى مآس
وآلام ، فلو تحققت مثلاً المدينة اليوتوبية التي نادى بها توماس مور لوجد
نفسه بيسر في ظل نظام شيوعي ستاليني رهيب مع كل ما انطوى عليه هذا النظام من
دكتاتورية وقمع وتنكيل وسفك للدماء !
وهذا يعني أن أروع ما في اليوتوبيا أنها غير قابلة للتحقيق ، وأجمل ما
تعطينا إياه هو ذلك الشعور الدفَّاق الذي تولده في نفوسنا ويدفعنا للتغيير بحثاً
عما هو أفضل وما هو أنبل ، وهذا ما عبر عنه الأديب الإنكليزي أوسكار وايلد في
أحد تعليقاته الساخرة حين قال : إن خريطة للعالم لا تحتوي على يوتوبيا ، لا
تستحق حتى مجرد النظر إليها ، لأنها تغفل البلد الوحيد الذي تتوجه سفينة البشرية
دائماً إليه ، وعندما ترسو على شاطئه تتلفت في الأفق فإذا لمحت بلداً آخر انطلقت
مبحرة إليه !
فالنفوس النبيلة تتوق باستمرار إلى ما هو أسمى وأمثل وأفضل ، وهذا ما يجعل
أصحاب النفوس الكبيرة في مأزق حقيقي وهم يعيشون عصرنا المادي البائس الذي أمسى (
عصر التسويات والحلول الوسطى ، والسعي لجعل العالم أقل شروراً ، والحالمون من
أصحاب الرؤى أصبحوا موضع السخرية أو الاحتقار ،
والناس العمليون هم الذين يحكمون حياتنا ، فلم نعد نبحث عن حلول جذرية
لشرور المجتمع بل لإصلاحه ، ولم نعد نسعى لإلغاء الحروب بل لتجنبها فترة تمتد
سنوات قليلة ، إننا لا نحاول إلغاء الجريمة وإنما نكتفي بإصلاح القوانين الجنائية
، ولا نحاول إلغاء المجاعات بل نسعى لإنشاء مؤسسات خيرية عالمية على نطاق واسع ..
وعندما يعيش المرء في عصر ينشغل بكل ما هو عملي قابل للتحقق السريع فربما يكون من
المفيد أن يلجأ إلى الأشخاص الذين حلموا باليوتوبيات ، ورفضوا أي شيء لا يتلاءم مع
مثلهم الأعلى عن الكمال )[1] .
وبالرغم من كل النكسات المفجعة التي انتهت إليها معظم المحاولات الماضية
لتحقيق المدينة الفاضلة على الأرض ، فإن الإنسان سوف يظل يحلم بتلك المدينة .. الحلم
.. ربما لأن الحلم جزء لا يتجزأ من التكوين الفطري للإنسان ، وهذه نعمة كبيرة من
نعم المولى علينا ، لأن تلك المدينة الحلم حتى وإن لم تتحقق فإن مجرد المحاولة
لتحقيقها يبعث في النفس السعادة ، ويدفع إلى
المزيد من العمل الذي يثمر في نهاية المطاف المزيد من تقدم المجتمع البشري
وتطوره ( فلولا يوتوبيات العصور الأخرى لظل الناس يعيشون في الكهوف عرايا بؤساء ،
إن اليوتوبيات هي التي رسمت خطوط المدنية الأولى ، فمن الأحلام السخية تأتي
الوقائع النافعة ، إن اليوتوبيا هي مبدأ كل تقدم ، وهي محاولة لبلوغ مستقبل أفضل )[2] .
د.أحمد
محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق