وقعت
جماعة النظام السوري في لبنان، منذ اندلاع الثورة السورية، في ورطة أخلاقية، لكن
هذه الورطة تحولت إلى فضيحة مع توافد عشرات آلاف النازحين إلى المناطق اللبنانية!.
قبل
الثورة السورية اعترض فريق النظام السوري على مطالبة قوى 14 آذار بترسيم الحدود
بين البلدين. قالوا إن ما بين لبنان وسوريا صنعه الله ـ جل في علاه ـ وبالتالي لا
داعي لتبادل السفراء، ولا ضرورة لترسيم الحدود. عندما قامت الثورة؛ قام النظام
السوري بتلغيم الحدود، ورغم أن التلغيم عمل حربي عكس الترسيم، فقد بلعت جماعة
النظام السوري ألسنتها!.
عابوا
على "14 آذار" شعار "لبنان أولاً"، باعتباره تقوقعاً لا يليق
فيتدفق النازحون فإذا بهم (جماعة النظام السوري) يضيقون بإخوانهم في الإنسانية
وأشقائهم السوريين، في الوقت الذي هبّ فيه أهل لبنان أولاً لاحتضان أشقائهم
ونصرتهم، مثبتين بالأفعال لا الأقوال أن إعلاء مصالح الوطن إلى درجة الأولوية لا
تعني إعراضاً عن إغاثة الملهوف والمنكوب، ونصرة المظلوم!.
قالوا:
"شعب واحد في دولتين". وقع الظلم على شطر الشعب الواحد في سوريا، فلم
يتحركوا دفاعاً عنه في لبنان، بل وقفوا في وجه من أراد مناصرته، فبان أن شعارهم
الحقيقي: نظام واحد في دولتين، أي قمع واحد، واضطهاد واحد، ومشروع واحد... في
دولتين!.
وعليه،
وبقدر ما أصبحت الثورة السورية كاشفة لحقيقة القوى المحلية والدولية، بقدر ما
أصبحت وجوه النازحين وأحوالهم كاشفة لحقيقة المواقف والشعارات المزيفة التي رفعتها
قوى سياسية عديدة في لبنان. وعلى سبيل المثال لا الحصر: ميشال عون، الذي طوّب نفسه
بطريركاً لمسيحيي الشرق، بعدما حج إلى سوريا، معلناً أن تفاهمه مع "حزب
الله" أخرج المسيحيين من عزلتهم وفتح لهم الآفاق. ميشال عون نفسه (على لسانه
هو ولسان صهره جبران باسيل) طالب بإقفال الحدود في وجه النازحين غير مرة. معنى ذلك
أنه في لحظة الحقيقة انتقل ميشال عون من الترويج للانفتاح المسيحي إلى الدعوة
لانغلاق غير إنساني، بعيد عن القيم المسيحية!.
في
المقابل، نجح خصمه المسيحي الألد سمير جعجع في "امتحان النازحين". لم
يرقص مع "الجنرال" رقصة تخويف المسيحيين، وادعاء الدفاع عنهم من خطر
التغيير الديمغرافي أو جماعات "التكفير والهجرة"، ولم يتجاوب مع طروح
التضييق على النازحين أو إقفال الحدود في وجههم، بل ذهب إلى مدى لم يتصوره من كان
يصف حزبه بـ"التعصب المسيحي"، وذلك عندما قام حزب "القوات
اللبنانية" بتقديم المساعدات لـ "أشقائنا النازحين".
وما
هو أشنع مما سبق كله يتعلق بـ "حزب الله"؛ ليس لأن الحزب فقد صدقيته
وأدبياته كلها في ما يتعلق بنصرة المظلوم على الظالم فحسب، وإنما لأن النازحين لهم
ديْن في رقاب جمهور "حزب الله" على وجه التحديد، منذ العام 2006، وقد
كان يفترض؛ لا أن يقوم الحزب باحتضانهم فحسب، وإنما حمايتهم والدفاع عنهم، وإقفال
أفواه حلفائه المنتقدين لوجودهم ـ كما يفعل عند اللزوم ـ، لكن ما فعله الحزب أنه
صمت سياسياً، إلى أن قام أمينه العام مؤخراً بحفظ ماء الوجه من خلال الدعوة إلى
ترك الحدود مفتوحة واحتضان النازحين، تاركاً لحليفه عون أن يتخذ من المواقف
العنصرية ما يرى أنها تكسبه مسيحياً على أبواب انتخابات تشريعية!.
في
المحصلة؛ وجدت حكومة "النأي بالنفس" نفسها أمام معضلة هي الطرف الأضعف
فيها. 250 ألف نازح في لبنان تقريباً لا تعرف الدولة اللبنانية عنهم الكثير، وقد
انتشروا على مساحة التراب اللبناني، وثمة معلومات عن تفخيخ مجموعات منهم من قبل
النظام السوري. وفيما دول العالم تنتقد التقصير الإنساني؛ تبدو الحكومة عاجزة؛ لا
مخيمات يمكنها أن تفتح لأن جماعة النظام السوري في لبنان ـ إضافة إلى سعادة السفير
السوري المبجل ـ لا تقبل بذلك (مع أن بعضهم بات يرى ذلك أقل الأضرار)، ولا مراكز
إيواء يمكن أن تفتتح، لأن قدراتها المادية أقل من ذلك بكثير ـ وقد أهدرت الكثير من
الهبات التي كانت مقدمة لها ثم انصرفت إلى دول أخرى لأن الحكومة لم تقبلها ـ، ولا
إحصاءات لديها لأنها تخلّفت عن ركب الإغاثة تاركة هذا الميدان للجمعيات والقوى
الأهلية، وكلها محسوبة على الفريق المناهض للحكومة، ولا هي أخيراً قادرة على إقفال
الحدود أو التضييق على النازحين، لأن حجم التعاطف مع قضيتهم العادلة أكبر بكثير من
قدرة الحكومة على التصدي له.
وبذلك
حصدت الحكومة بذور نأيها بنفسها نتائجَ عكسية، فصار ملف النازحين من الناحية
الإنسانية، واستثماره من الناحية السياسية في أيدي خصومها، وباتت مخيمات النازحين
أهون على بعض الحكومة من انتشار السوريين واحتضانهم من قبل الخصوم، وغدت فضيحة
الشعارات الفارغة أعفن من أن لا تخرج رائحتها للعالم... وتالياً أخذ فرقاء الحكومة
يتلاومون ساعات في جلساتهم الوزارية، فزاد ذلك من فضيحتهم الأخلاقية، وفشلهم
السياسي.
وواقع
الحال أن حلفاء الأسد، وبعيداً من أي قيم أخلاقية أو إنسانية، لم يكونوا راضين عن
تدفق النازحين أصلاً، وقد عملوا على التجسس عليهم والاعتداء أو التضييق على بعضهم
("حزب الله" ـ الحزب "السوري القومي" ـ جماعة شاكر
البرجاوي...) وتسليم بعضهم إلى سلطات بلادهم، فيما أقام "حزب الله"
معتقلاً لمن يشتبه بعلاقته بـ "الجيش السوري الحر" في منطقة القصر على
الحدود مع سوريا (لا يزال قائماً إلى اليوم). وقبل أسابيع من الآن قام مناصرو
الحزب وحركة "أمل" بالاعتداء على السوريين، نازحين وغير نازحين، إثر
ظهور أحد أبناء آل المقداد مع "الجيش السوري الحر"، فضلاً عن خطف
العشرات منهم. هذا الموقف هو موقف جامع لحلفاء النظام السوري، لأنهم لا يريدون
إحراج هذا النظام بوجود شهود؛ أكثر من 95% منهم يلعنون بشار الأسد ويتحدثون عن
جرائمه، إن لم يكن بألسنتهم، فبقلوبهم.
وواقع
الحال أيضاً أن ملف النازحين ـ رغم كل ما يحكى اليوم ـ لن يخرج عما سار عليه من
البداية. لا الحكومة ستتمكن من استعادة المبادرة، ولا كلام السيد نصر الله
الإيجابي عن النازحين، أو بعض المساعدات لهم، ستغفر له خطيئة التورط في الدم
السوري (رفض كثير من السوريين استلام مساعدات من "حزب الله")، ولا
عنتريات ميشال عون ستترجم عملياً، لأن من يذهب إلى سوريا ليقدم نفسه قرباناً
للثورة ـ بغض النظر عن الموقف من ذلك ـ سيكون أسهل عليه أن يجعل جسده معبراً
لإخوانه النازحين، إن حاول ـ أياً يكن من يحاول ـ أن يقفل الحدود، أو يضيق على
النازحين!.
ولأن
ما كُتب قد كُتب، ولأن الأزمة في سوريا ستبقى ـ للأسف ـ دموية شهوراً إضافية، ولأن
القيم الإنسانية والأخلاقية ساقطة عند بعض القوى السياسية في لبنان، فسنشهد موجات
من الكلام العنصري، ومزيداً من التخويف... يسري هذا الحكم على مسيحيي عون كما يسري
على محازبي "حزب الله" الذين يتحسسون رقابهم من شدة ما يخوفهم معممو
الحزب ومسؤولوه من ثوار سوريا، في حال انتصرت "الجماعات التكفيرية"...
لكن من ينساق وراء خوفه أول مرة لا يمكن أن يبقى خوفه بالمقدار نفسه كل مرة، وتالياً
عندما يفكر بعيداً عن الخوف؛ يدرك أن ثمة من يلعب بأعصابه لمصلحته السياسية، لا
سيما عندما يدرك مع الوقت أن بشار الأسد ساقط ـ رغم توقعات عون ومنجميه ـ وأن
النازحين اليوم هم شعب سوريا المنتصر غداً... ولا مصلحة لأي كان في لبنان أن يصنفه
الشعب السوري "المنتصر" عدواً لثورته!.
المستقبل - الأحد 6 كانون الثاني 2013 - العدد 4567 - شؤون لبنانية -
صفحة 2
فادي شامية
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=553932
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق