مدينة كان يقال عنها أنها مدينة متهالكة، بينها
والسقوط شعرة واهية، وأمتها ضعيفة غير قادرة على الصّحو من رقاد طويل بشع. وكان اليأس
قد أصاب من بقي حرا من أحرارها. وقالوا لا
يمكن لهذه المدينة أن تنتفض على جزارها. لكنّ ما حصل ناقض التوقعات، وجاء معاكسا
لها؛ فثارت دمشق على مجرمها، وثارت سوريا كلها،
وصحا النائمون وانتقضوا في ثورة يبدو، واقعيا، أن لا مثيل لها في تاريخنا المعاصر
بطولة وبسالة، خصوصا بعد صمودها الأبي أمام حرب إبادة همجيّة على مدى عامين، يشنّها نظام إرهابي عنيف على شعبها
الشجاع الحر؛ فتقدّم لأجلها ملاحم صبر وصمود ونضال وكفاح وقتال؛ فهل نتوقّع أن
تعود سوريا ودمشقها بعد غزير ما سخت به من دماء إلى عبودية أخرى؟
معظم ما يقوله الخائفون من استبداد جديد تأتي
به الثورة، هو قول ينقصه نضج القراءة العميقة الواعية. نعم يعيش الشعب السوري أوضاعا فظيعة من الدمار والنكبة والفظائع، جعلت
حشودا من شعبه ومقاتليه تتطرّف بشدّة وتمارس مايشيه الإقصاء والفئويّة؛ لكنّ هذا
الوضع آني، وله ما يفسره نفسيا واجتماعيا
ومجتمعيا. ولن يتعدى أن يكون مجرد أجواء عاصفة مؤّقتة وعابرة. أما المصالحة
واستعادة الوحدة الوطنية فهو الحوهر وهو مصب ثورة الذي يرفدها بالنصر.
فوضى الفعل أمر طبيعي عندما يواجه عموم الشعب زحفا بربريا لقطعان المجرمين الذين يخرجون
كالجرذان من أوكار الحقد والاستبداد التي عاشوا وكبروا فيها عبيدا لمنظومة فساد
واستبداد ومورثات عنصرية شديدة؛ لكن هذا لا يعني القبول والرضوخ لحالة الفوضى؛ إذا
لا بد من التقاط الأنفاس والاستعداد للمهمات الرئيسة في بناء دولة الحرية والحق
والعدل.
الشعب يواجه يوميا أشد حرب شرسة من سكان بلده؛ ليس فقط من شبيحة
وعصابات عسكرية وأمنية نظاميّة، بل من كتائب مخترقة من قبل النظام، ومن كتائب عميلة لأجهزة استخبارات عالميّة،
يهمها تدمير ثورة الحرية والكرامة وإنهاك سوريا الحرّة، ومن لجان شعبيّة تعمل وفق
إرادة النظام وخططه. ويخرج العدو الإرهابي في ريف دمشق من حارات عديدة: من عش
الورور، وحي الورود والعرين، ومعضميّة الشام و..، و... وهم كتائب مسلحة. ومنظّمة للقتال. وشبابه من عمر طلاب الصف العاشر
وحتى أعمار كبيرة، يطلعون من بيوتهم وبيوت اهلهم مع عتادهم وسلاحهم الذي مدهم به
النظام. وهذا ليس كلام شائعات. هذه حقائق نراها بأم أعيننا. وينقلها إلينا
المقاومون والثوار وأبناء عموم الشعب. وأيضا، هذا ليس في ريف دمشق، فقط، بل في
مناطق المعارك كلّها. ويقول الناشطون والثائرون
الشرفاء" نحن شعب واحد. ولن نحاسب السوري إلا على وطنيّته؛ لكنهم هم الذين
يمارسون الحرب. ولدينا اعترافات خطيرة تدينهم؛ هم بأقلامهم خطوها، وهم بألسنتهم قالوها".
إذن هي معركة طاحنة وخبز معجون بلحم الأطفال،
ووقود من دماء الناس وجبهات قتال كثيرة، حتى بين جدران البيوت، وبين جدران القلوب
والعقول حيث تصبح المسافة بين الباطل والحق هي المسافة الفاصلة بين الموت والحياة،
بين الوجود والعدم. وبالطبع هناك مشاركة عامة مع النظام الأسدي من كل مكونات الشعب
السوري التي ربّاها نظام الأسد الأب
والابن وأصبحت القطط السّمان؛ لكنّ نسبهم قليلة، وأحيانا قليلة جدا، مقارنة
بالأغلبية العظمى من الطائفة العلويّة التي تشارك بقوة نتيجة عدة أسباب تاريخية
ونفسية وفكرية ودفاعا عن مصالح عقائدية وأمنيّة واقتصاديّة وتسلّطيّة. ثم هناك
العساكر أبناء مكونات الشعب كله، الذين مازالوا يخافون من سطوة النظام ومن آلة
قتله وقوّة أمنه، ومازالوا في الخندق الواحد معه. لكنّ كل من يقاتل مع النظام ومن
يدافع عن النظام، ومن يجبن ويصمت على جرائم النظام هو مفروز مع النظام؟ فإلى متى
سيظل الإنسان عسكريا أو سياسيا أو مواطنا عاديا، قاعدا يكتفي بالفرجة والصمت على
هذا الإجرام الفظيع.
لماذا استمرار الخوف؟ لماذا لا يننشق عن الجيش والنظام
كل العسكر الذين لا تربطهم مصلحة بنيوية بالنظام؟. أخوفا من الموت؟ الموت يحاصر الناس جميعا.
الجميع يموت سواء من يشارك في الثورة، أو من لا يشارك أو من يكون صامتا أو من يكون
محسوبا على النظام أو من يعمل مع النظام؛ فلماذا الموت بالعار والذل، وبشكل رخيص
ومجاني. لماذا لا يكون الموت بشجاعة وبسالة وعز وشرف؟. ويقول الثوار مستغربين موقف
العسكر "إن الذي يعطيك أمرا
بالقتل، قد يأتي يوم ينفّذ فيك أنت أمر القتل. وتموت كالفأر والجرذ؟"
ولعلّ السؤال المهم الذي يمكن أن ترد عليه
الثورة ببساطة على أقوال الذين يتهمونها بالإرهاب والعسكرة والعنف والعودة إلى
الاستبداد: ماذا يفعل الإنسان عندما يهاجمه مجرمو النظام وعصاباته المتوحشّ ويقتحمون
بيته وحيّه ويذبحون الأطفال ويغتصبون النساء ثم يقتلونهم ويقتلون الرجال والشيوخ؟ وماذا
يفعل الإنسان عندما تقصفه الطائرات
والصواريخ وهو ينتظر في طابور ليحصل على
رغيف خبز، له ولأهله أو ليحصل على وقود للدفء
أو للطبخ أو لقيادة عربته؟ هل يكتفي الإنسان بالاحتماء بشعارات السلمية. هل يكفيه
أن أنه وحده بلا أحد، وبلا معين؟ هل يكفيه الهرب؟ هل يكفيه الصراخ؟ هل من حق يجعله
يصمت ويسكت على موته القسري وعلى إهانته وإبادته؟ فكيف نتوقّع منه وهو في قلب المعركة
التي تدور رحاحا على مدار الساعة أن يكون موضوعيّا متوازنا ملائكيا؟ إن توزانه
العسكري وصموده يتطلّب منه كل شحنات الغضب لكي يقاتل المعتدي المجرم.
ما يعيشه الشعب السوري والثورة يستدعي منا
جميعا الارتقاء إلى مستوى ما يحدث من مأساة ومن بطولة في مواجهة المأساة، وبالتالي
تعديل كثير من مقولاتنا الشائعة والكثيرة التي نصر على محاصرة الثورة بها وبما
تمليه من أحكام عامة جاهزة، ويسادعي منا العمل على تجاوز آلية العزاء التقليدي
ومنظومة النقد الهدام والنقد العقيم وحالة التنظير المتخلّف عن واقع اللحظة،
والخوض في عمليّة ناضجة لاستقراء الواقع
بجدية ومنهجية وإخلاص وشفافية، بعيدا عن مصالحنا الجزئية ورؤانا السياسية
الضيقة؛ فالوطن أكبر من حزب وأوسع من
نظرية.
لا أحد في الثورة السورية والمعارضة هو
الوحيد الذي يملك الحقيقة ويملك النظرة الصحيحة، ويملك الحق للتفرد بالحديث عن
سوريا الغد. قوة الشعب التاريخيّة للأمة هي التي تتحكم في كل المسارات. والثورة
تتطلب منا العمل في فريق متعاون ومنظّم ومخلص. نحن في زمن لا يحتكر واحد المعلومة،
ولا يحتكر واحد المقولة أو التحليل أو المعرفة. ولا يحتكر واحد العمل والنضال. نحن
في زمن العمل التشاركي وروح الجماعة. ويلزمنا التقيّد بهما، وتوحيد الجهود في عمل سياسي وعسكري بعيد
عن الصدام التهديمي، وبعيد عن التعالي والإقصاء والاحتكار.
الذين يعانون ويموتون قتلا
وقهرا وبردا وجوعا وعذابا، من الطبيعي أن يتطرفوا أمام فوضى مايحدث. وهذه الفوضى
ستستمر، مادام التقوقع والتشرذم يزدادان
في التمثيل السياسي وفي أدبياته، ومادام
الخطاب الاستعلائي النخبوي يعلو بشدة.
ليس من المنصنف أن يستمر الذين يعيشون خارج المعركة في ممارسة دور القاضي
ومتقصي الأخطاء خارج حركة الثورة ومتطلباتها ومطالبها وظروفها. وإنّ إعادة النظر
في عملنا السياسي مطلوب جدا ومطلوب، ايضا، إجراءات عاجلة تلبي مطالب اللاجئين والنازحين
والجرحى والمقاتلين والجائعين والنازحين والمرضى.
فوساوس الخوف من الاستبداد التي اصبحت هوسا، لن تنفع ولن تفلح في تلبية مطالب
المحتاجين الضرورية والعاجلة.
مازال المشهد السياسي في مقابل
الواقع السوري اليومي ضعيفا جدا؛ فنحن
نشغل أنفسنا في مداخل لا مخارج لها؛ فعلى سبيل المثال انشغل السياسيون ومازالوا
ينشغلون بقصص وشائعات تنحي بشار، بدل أن ينشغلوا في تنظيم العمل الواقعي ضمن مهمات متعاونة ومنظمة على إسقاط بشار
ونظامه. وبدل أن ينشغل السياسيون في قيادة العملية السياسية بنجاح وفائدة. ينشغلون
في سباق المصالح الشخصيّة وحمى الاختلاف
والخلاف، وينشغلون جدا في الثرثرة ترسيخ الأحكام على الثورة والائتلاف وعلى معاذ
الخطيب وسهير الأتاسي وفلات وفلان، واتهامهم المطلق بالسذاجة السياسية، عليهم، بدل
ذلك أن يقودوا معارضة منظمة متعاونة ضاغطة لكيلا تضيع أهدافنا الجوهرية وسط زواريب الاصطفاف الانشقاقي عن حركة الجموع
وحركات التجمّع التي تنشد العدالة والحرية والمساءلة المحقة في الوقت المناسب.
المسافات الكبيرة بين الناس، ليست وليدة
الثورة، لكنّ الثورة جهرت بها في العلن. وإن
القلق من الغد، ليس وليد الثورة؛ فالغد كان غامضا جدا من قبل، وبلا أمل. الثورة
جعلت للغد أهمية كبيرة، لذلك أصبح الخوف عليه كبيرا. والقلق يجب أن يحرك الناس إيجابا للتفكير بحلول للتقليل من
الكلفة التي دفعها الشعب ويدفعها يوميا.
لا خوف، مع الثورة، على سوريا وعلى شعبها مهما
زادت الكلفة؛ فالحرية عندما تكون مطلبا جديا وجادا، تحظى بها الأمم المكافحة، ولو
بعد وقت. وها هي تجارب الآخرين أمامنا واضحة، وهاهو الشعب العراقي الذي قدم
الملايين من الضحايا وكثيرا من الخسائر، يهب من جديد، رغم خسائره، باحثا، من جديد،
وبصمود عن الحرية والكرامة والعدالة. لن يضيع الحق مادام وراءه مطالب محقة ومادامت
الثورة سائرة معه.
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق