الزائر
للجرحى حيث وجدوا، يشعر بحجم المصاب، وكبر الكارثة، وعظم الجريمة التي يرتكبها هذا
النظام العصابة، عصابة بشار ومن حوله من أكابر مجرميها، بحق الشعب السوري.
وهذه الحقيقة تمثل جانباً من جوانب المأساة،
وشعبة من شعبها، لأن المأساة أكبر من قضية الجرحى، وأشمل من حصرها بمعاقين، وبعد
العرض الموجز، الذي سوف أسطره في هذه المقالة المتواضعة، على الباحث أن يقيس غيرها
عليها، ويجمع شتات الكارثة من كل أطرافها، ليقف على المشهد كاملاً، وينطق الحكم
على القضية، وتبقى قضية المفهوم أعمق بكثير من منطوق الجداول والإحصاء، لأنك
تتعامل في قضية كهذه مع الإنسان كإنسان، وليس مع عمارة تبنى، أو طريق يعبد، أو جسر
ينشأ، هذا من جانب، وطبيعة النظام العصابة، وتعاطيه مع المسألة، يعطيه بعداً آخر
فيما نحن بصدد تأكيده.
وأنت
تطوف على الجرحى والمعاقين، تجد صوراً يقشعر منها البدن، وتوقف شعر الرأس، تدمع
العين، وتحزن القلب، وتزرع في النفس معاني الضرورة في وجوب التعاضد، وأهمية التعاون،
للعمل بهذا الملف، بكل ما يتطلب من استحقاق، وبكل ما يلزم من جهد وجهاد.( وتعاونوا
على البر والتقوى) و( من لا يرحم لا يرحم).
هذا قطعت
يده ورجله، وذاك بترت ساقه، وفي غرفة ترى مقطوع الرجلين، أو اليدين، أو ربما
اجتمعت جميعاً في شخص واحد.
ترى من
بين المعاقين، من أصيب بشلل رباعي، نتيجة شظية طائشة، من خلال تلك البراميل
المتفجرة التي تقذفها طائرات النظام العصابة، على رؤوس الناس الآمنين في منازلهم،
وكذلك ترى من أصيب بشلل نصفي، ومن كسر عموده الفقري، ففقد الإحساس بأطرافه
السفلية، أما من أصيب بالعمى، إذ فقد بصره، فحدث عن هذا ولا حرج، رأيت شاباً في
عمر الورود، قد فقد بصره، يقلب أكفه، ناظراً بعين البصيرة إلى المستقبل الذي
ينتظره.
أما من
أصيب بالحرق الكامل أو الجزئي، فهذا أصبح شائعاً شيوع انعدام الخبز والمحروقات،
والأكثر ألماً أن تشاهد هذا المشهد البئيس قد حلّ بالنساء والأطفال، فما أصعب أن
تحمل امرأة جريحة، طفلها المحروق، حقاً إن المصاب كبير، وبين الفينة والأخرى، وفي
زحمة الصور المختلطة، ينادى أن فلاناً من الجرحى، قد ودع الحياة، ليدفن في مسجد،
أو حديقة، أو حوش بيت، لأن الحصار من العصابات والشبيحة تمنع الناس من الوصول إلى
المقابر، أو أن المقبرة ما عادت تسع جدداً، لأن طاقة الاستيعاب لها في المخطط
البشري، كان أقلّ من الحاجة، ولا يعلم الغيب إلا الله.
كل هذا
مع نقص كبير بالأطباء، وفقدان للأجهزة الطبية، وانعدام لبعض الأدوية، وقلة في
الموجود منها وندرة، وقصف للمستشفيات، وتخريب متعمد لمنظومة العمل الطبي، من قبل
النظام العصابة الذي قرر أن يحرق البلد.
*******************************
ورغم المأساة،
بكل ما تحمل في طياتها، وأنت تزور الجرحى، وتتفقد المصابين، تقف على حقيقة مذهلة،
وهي أن هذا الشعب، صابر محتسب، يلهج بحمد الله على كل حال، فلا ترى التذمر، ولا
التبرم، ولا الضجر، بل تلمس المعنويات العالية، والهمم الكبيرة، التي تطاول
الجوزاء شموخاً ورفعة، وترفعاً عن خلق السخط، وتعالياً على الجراح.
( عجباً
لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته
ضراء صبر، فكان خيراً له).
كثير
منهم ما إن تعافى قليلاً، حتى يلتحق بصفوف الخادمين لهذا الشعب، في قضيته العادلة،
حتى صار مألوفاً أن تلق شاباً، وهو في الميدان، ليخبرك عن جسده وما حوى من شظايا،
وما سكنت فيه من رصاصات، وما فيه من جراحات، يتلهف الشباب الجرحى للتماثل للشفاء،
شوقاً للالتحاق بأبناء شعبهم، ليقول أحدهم للطبيب: هل خروجي سيكون قريباً، أم أن
قضيتي طويلة؟ فيقول له الطبيب: لم هذه العجلة؟
فيقول:
شوقاً إلى لقاء الأحبة، ووقوفاً مع أبناء شعبي، الذين خذلوا ، فلا أقل من أن أكون
بجانبهم، أحمي عرض سورية، من شبيح مجرم، يريد انتهاك عرضها، أو لعلي أستطيع تقديم
رغيف خبز لجائع، من هذا الشعب الأبي الذي تعود أن تكون يده عليا.
إن من
يزور الجرحى، ليواسيهم- وهذا ضروري ولازم- بعد أن يراهم يتعلم منهم دروس الصمود،
ويرجع المواسي مواسياً نفسه ومؤنبها، ولسان حاله يقول: هنا البطولة، هنا الاستعلاء
على الجرح، هنا مدرسة عملية، على الأجيال أن تتعلم منها دروس الصبر والمصابرة
والمرابطة، وبناء شامخات المجد، وصناعة الحياة، على مناهج العدل والحرية والكرامة،
وحقوق الإنسان.
ويا
سبحان الله!!! كأنما عوض الله هذا الشعب الذي أغلقت مدارسه، وتعطلت معاهده، وذبح
طلاب جامعاته، بهذه المدرسة العظيمة، والمحنة منحة، ونسأل الله العافية والفرج.
وبعد ذلك
وأنت تقرأ هذا المشهد، تجزم بأن شعباً بهذه الروح العالية، والصمود الكبير لا يقهر
بإذن الله، ومنصور بعون الله.( وبشر الصابرين).
*****************************
وأنت
تزور الجرحى، ترى روح التعاون والتآلف والإيثار، تلف المشهد، في إطاره العام،
لتعكس لك حقيقة هذا الشعب، وتكشف لك معدنه النبيل، وخلقه الأصيل، الذي حاول النظام
عبر خمسين عاماً، أن يمسخ هذا الشعب، ويبعده عن كل قيمة من قيم الترابط، من خلال
مخابراته ومخبريه، وأجهزته الماسخة، وإعلامه المضلل، وتشجيعه للفساد الذي ضرب
أطنابه، بكل مرفق من مرافق الحياة، ومن نطق بكلمة إصلاح، أو أراد تطور الخير في
المجتمع ليس له سوى القمع، وتمارس عليه أساليب إرهاب الدولة، بكل ما تحمل، من ويل
وقهر وثبور.
تسأل
المرافق للمريض، من يكون لك هذا الذي ترافقه؟ ليقول لك، هذا ابن حارتي، لم يهن علي
أن يذهب إلى المستشفى وحده، ولا بد له من مرافق، فيتحمل عناء السفر، ومعاناة
المريض، والصبر على متطلباته واحتاجاته، وما أدراك ما هي، وما تتطلب من صبر، وهمة
عالية.
تسأل آخر
نفس السؤال، فيجيبك: هذا أخي ابن أمي وأبي، ويقوم على خدمته، ويصبر على تنظيفه، ويحمل
ما يخرج منه، برضى وصبر واحتساب.
رأيت
شاباً يرافق شاباً أصيب بفقد البصر، ويطوف به من مكان لآخر، ومن مدينة لأخرى، عله
يجد له ما يعيد بارقة أمل لأخيه، ليستأنف الحياة، سليماً معافى، وأن لا يكون عالة
على غيره، رأيته آخر مرة في اسطنبول، ليقول لي: أنا سأسافر إلى المدينة الفلانية،
فقد جاء فريق من الأطباء إليها، لإجراء عمليات للعيون، ومنها زراعة العيون- هكذا
قال وهكذا وصله الخبر- وإنني سوف أتبرع بإحدى عيني لأخي، عسى الله أن يرد له بعض
بصره.
وصور
كثيرة، ومشاهد عديدة، كلها تؤكد على هذه الروحية التعاونية، التي يواجه بها هذا
الشعب محنته.
**************************************
ومن ثم
فإن هذا الواقع بما حمل، يرتب على الأمة واجبات كثيرة، ومهام جسيمة، بدءاً من
مؤسسات المعارضة، كالمجلس الوطني والائتلاف، مروراً بكل الجمعيات العاملة على
الأرض، وانتهاء بكل أبناء هذه الأمة، على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وجمعيات
حقوق الإنسان، ومؤسسات العمل الخيري.
أن يضعوا
هذا الملف، في الصف الأول بتريتب الأولويات، عناية ورعاية واهتماماً عملياً، حتى
نقوم بواجب الوقت تجاه هؤلاء المنكوبين، ولنرسم صورة المستقبل من خلال مناهج العمل
لقادم الأيام في الذي سيترتب عليه هذا الأمر الجلل، من آثار وتداعيات، وما يتركه
من ندبات لها استحقاقاتها، التي لا يجوز أن تغفل.
كما على
العلماء أن يقوموا بواجب، النصح في البذل والإنفاق، ويذكروا الناس بضرورة التعاون
في هذا الشأن، ويصدروا الفتاوى التي تغطي هذا الجانب، بشكل واضح وجلي وصريح،
فالعلماء ورثة الأنبياء.
ويا
أحرار العالم، ويا دعاة حقوق الإنسان، التاريخ لا يرحم، ويلزمكم أن تكونوا
متناغمين مع ما تدعون إليه، وأن لا تكيلوا بأكثر من مكيال، وأن تلتفتوا إلى قضية
الشعب السوري، من خلال الرؤية بعينين، لا بعين واحدة، فالاجتزاء خلل في مناهج
البحث، وسقوط في دركات الخلق.
وللأمانة
نقول: نعم قدم من أبناء الشعب السوري كثيراً مما ينبغي أن يقدم، وكذلك مؤسسات
المعارضة، وكثير من أبناء الأمة، بذلوا وتعاطفوا، وشعروا بالواجب، وأحسوا بإحساس
الأخوة، ولكن الأمر أكبر مما قدم بكثير.
( ودرهم
سبق ألف درهم) ( واتقوا النار ولو بشق تمرة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق