أبو وليد أعزه الله لا
يحلو له شرب قهوة الصباح إلا تحت مزراب الشطف العائد لمطبخنا , وأبو وليد لمن لا
يعرفه : هو زوج جارتنا أم وليد زادها الله مقاماً ورفعةً.
الغسالة اليدوية لم تعرف
بيتنا إلا بعد أن إخترع الغرب تلك الآلة الأوتوماتيكية التي تلقمها الغسيل الوسخ
من جهة فتخرجة لك نظيفاً جافاً مكوياً مطوياً من الجهة الأخرى.
الحمام لم نعرفه قط ,
فالمطبخ هو الحمام والمطبخ والتواليت أيضاً منذ تربعت عند زاويته الشمالية
الشرقية كبينة عربية أكل الدهر عليها وشرب بعد سطم الأساسية وتعذر اصلاحها الا
بحفر مطبخ وصالون " جاري أبو وليد " وهو ما رفضته أم وليد بشدة.
كان بابور السيروس نمرة 6
يشتغل منذ الرابعة صباحاً , وبرميل الغسيل يغلي فوقه على الدوام , الطيد والنيلة
وبراشة صابون المكيس التي يحضرها أبي بالأطنان سرعان ما تنتهي كما لو كانت أمي
تستفها.
عند السادسة تماماً كان
أبو وليد بكرسيه المربع وبيجامته العريسية المقصبة وفنجان قهوته الملقلق المكسور
الأذن يجتمعون تحت مزراب المطبخ.
يبدأ بترتيب القعدة
بوضع الفنجان جانباً لتعيير الكرسي عند بؤرة المزراب , وبعد أن يرتاح لصحة موقعه
حسب أدق علوم الجيوديسيا والطوبولوجيا والطوبوغرافيا يجلس متناولاً فنجان القهوة
بيده اليمنى , حينها.. وحينها فقط تكون أمي قد أنهت آخر وجبة غسيل , و......... طش
ع هالمجرور.
الماء المغلي الرمادي
اللون المشوب بالزرقة لم يخطئ - ولو لمرة - الكتلة الحجمية الضئيلة للجار
الغالي الذي لم يكن ينتفض إلا بعد تلقيه آخر نقطة من البرميل.. حينها يبدأ مسلسل
الردح والسباب اليومي , وسرعان ما تدخل أم وليد على الخط.
حينها أعلم أنا وأحمد أن
موعد الإستيقاظ للذهاب إلى المدرسة قد حان.
كنت أستمتع وأنا أرتدي
ثيابي بشتائم ومسبات أم وليد التي كانت تلجأ إلى الزجل والأغاني في عملية الردح ,
جمل من أشكال " شيك شاك شوك كانت تمتلك معانٍ عميقةً وهى تستخدمها في الردح
والسباب.
لم أفهم – وما أزال – ما
تعنيه تلك اللوازم الموسيقية في حفل الماتينيه هذا , لكنها كانت تعجبني بقدر
ما تسم بدن أمي.
في إجدى المرات لم يحصل
أبو وليد على دوشه الصباحي فتأخرنا عن المدرسة , ثم علمنا أن الوالد رحمه الله قد
أحضر في اليوم السابق عثمان الطرطوسي الذي قام بتحويل المزراب إلى جورة التفتيش
تبع الحارة... عندها كسرناه على الفور وأعدنا الأمور إلى سابق عهدها.
كنا نأكل في المطبخ ونشرب
ونتحمم ونطبخ وتغسل أمي ثيابنا فيه.. وفي ايام القيظ كانت أمي تفرش فيه حصيراً
وتعبي أركيلتها وهى تسند أحد جدرانه.. لم يكن ينقص الا أن تاتي بفرشاتنا إليه لأقول
أن المطبخ هو بيتنا كله.
كانت غرفة نومنا الصغيرة
تعج بالفرشات الإسفنجية أما غرفة الضيوف الواسعة الخاوية على عروشها فقد كان
يزينها طقم كنبات كالح أكل الدهر عليه وشرب منذ تزوجت والدة جدتي , ويتربع في
الصدر عزيزاً : براد بردى مستعمل 12 قدم أشتراه الوالد من عند الطربشان بسعر معقول.
كان البراد خالياً على
الدوام إلا من إبريق الماء , أما الطعام الذي من المفترض أن يحفظه البراد من التلف
فهو شيء لم نكن نعرفه قط , فلم تصدف مرة أن طبخت والدتي شيئاً وبقى إلى المساء ,
ولم يكن هذا نابعاً من قلة بقدر ما هو صورة رائعة للفجعنة , فقد كنا مفرطي النشاط
شديدي الشيطنة , نتغدى أربع مرات ونتعشى ستاً , ومع ذلك كنا على الدوام نبدو
كدودتين وحيدتين من شدة النحول.
كنت وأحمد نشكل مجتمعاً
استهلاكياً حقيقياً...
كان السوسي الأب ماهراً
في صناعة الحلّي , وبهذا كان مصروفنا اليومي يذهب لجيبه على الدوام , وأذكر كيف
كنا نتجمهر أمام دكانه الصغيرة وهو يشد كتلة الحلي المعلقة بمسمار صدئ في جدار
المحل مخرجاً منها أطيب القضبان واكثرها قرمشةً.
كان السوسي الأب بالنسبة
لي هو رأس الهرم في جبلة والكون , فهو الرجل الأعظم في تاريخ البشرية.. كان محط
أنظارنا وإكبارنا – نحن الصغار – وما أسعد من يحن عليه بالقرمة " التي كنا
نتقاتل عليها دائماً ".
في إحدى المرات كنت أسير
وجدي في السوق , وكان السوسي الأب في السوق كذلك , سلم عليه جدي فرد عليه
ذاك بحرارة منقطعة النظير, حينها فقط علمت أنهما صديقان.
أحسست بالفخر والنشوة ,
وأدركت حينها كم أنا حفيد شخص عظيم وأكابر.
نفخت صدري وأنا أتباهى
أمام الجميع بجدي العظيم صديق السوسي..
أقسم بالله هذا كان شعوري
حينها , وما أزال - حينما أذكر تلك الحادثة - تنتابني مشاعر طفولية مبهمة
لذلك الإحساس السابق بالعظمة.
في إحدى المرات كدت أدخل
السجن مبكراً بسبب هذه المشاعر , ففي الصف الثامن طلبوا منا كتابة موضوع تعبير عن
الشخص الأكثر عظمة وتأثيراً في التاريخ المعاصر.
كان الأستاذ المنافق
المقموع يوجه الطلاب للكتابة عن حافظ الأسد , فقط أنا كتبت عن " أبو أحمد
السوسي " ذاكراً تجربتي هذه.
ربما كان الموضوع الذي
كتبته ركيكاً مبهم الصورة حيث لم أكن حينها أمتلك الآلية والمفردات اللازمة
للتعبير بوضوح عن مشاعري , وربما لأن مفتش اللغة العربية – لسوء حظي – كان حاضراً
, وربما – وهو الأرجح – لأن أبا أحمد السوسي كان يصنع إضافة للحلي الذي حدثتكم عنه
, سيلان العيد والجزرية والهريسة أم خط أحمر الشهيرة.
بدا الموضوع وكأن أبا
أحمد السوسي مقابل حافظ الأسد , وأن استشهادي بالسوسي هو فقط من أجل الهريسة أم خط
أحمر التي تذكر الجميع بعلوية الرئيس ومنبته الفلاحي.
لم أكن أدري أن موضوعي
كان طائفياً بإمتياز.
مفيد سعيد الذي حضر
للمدرسة على عجل إثر هاتف من الإدارة عن طالب يوزع منشورات طائفية لم يجد في
الموضوع ما يستحق هذه الضجة , لكن هذا لم يمنعه من اعتقال أبي " كمحرض لي على
كتابة هكذا موضوع " , ولولا تدخل أم وليد التي أثبت طيبتها وحسن جوارها إضافة
لنفوذها المؤثر لدى مفيد سعيد وباقي عناصر المفرزة لتختخ الوالد بالحبوس.
الآن وبعد مضي حوالي
عشرين عاماً على القصة لا يسعني إلا أن اقول كلمة حق : الله يرحمك يا " أبو
أحمد السوسي " ويلعن روحك يا حافظ.
أكثر ما أعجبني بالقصة تعريفك لجارك أبو وليد
ردحذف