ضمن سلسلة "كتاب
الأمة" التي تصدر عن إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في دولة قطر ، صدر
كتاب ( المعطيات الحضارية لهجرة الكفاءات) شارك في إعداده نخبة من الباحثين
، وهو بمثابة مشروع ثقافي جماعي اعتادت "مؤسسة الأمة" على إصداره سنوياً
في محاولة منها لاستدعاء النظر إلى هجرة الكفاءات من الوجه الآخر ، في محاولة من
المؤسسة لتغيير زوايا النظر التقليدية ، ذلك أن معظم الكتابات حول موضوع الهجرة
اهتمت برصد الآثار السلبية للهجرة ، ولم يتوقف سوى القليل منها عند الوجه الإيجابي
للهجرة ، أو ما يمكن أن يكون عطاء حضارياً للهجرة مما يتطلب وضع استراتيجية عمل أو
خارطة طريق لاستثمار هجرة الكفاءات استثماراً بناءً .
والكتاب يدعو للتأمل في
أزمة الكفاءات العربية التي اضطرتها الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية القاسية
إلى الهجرة ، غالباً نحو الغرب ، أوروبا والولايات المتحدة بخاصة ، ولعل الجديد في
هذا الكتاب أنه لم يتوقف فقط عند الآثار السلبية لهذه الهجرة بل تعداها للحديث عن آثارها
الإيجابية أيضاً ، وهو بهذه اللفتة يعيد إلى الأذهان هجرة النبي محمد صلى الله
عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى يثرب وما رافق تلك الهجرة من آلام ومتاعب ومعاناة ،
لكنها كانت في الوقت نفسه المقدمة الحقيقية لفتوحات عظيمة ، كان أولها إقامة
الدولة الإسلامية الأولى ، ثم انتشار الإسلام في أرجاء العالم ، فالهجرة بحسب مؤلفي
الكتاب تنطوي على جوانب سلبية وأخرى إيجابية قد تكون هي الأهم والأبرز .
يبدأ الكتاب بتقديم
طويل غني بالأفكار والمعاني العميقة للأستاذ عمر عبيد حسنة ، وهو المشرف على هذه
السلسلة القيمة التي مضى على تأسيسها نحو ثلاثة عقود كانت حافلة بالعطاء الفكري
المتميز ، تبدأ فصول الكتاب ببحث تحت عنوان ( الهجرة ومأزق الهوية ) للباحث
المغربي د.إدريس مقبول ، الذي تحدث عن الهجرة وعقدة الانبهار بالآخر المتمثل
بالنموذج الغربي تحديداً باعتباره النمط الأوحد لكل تقدم حضاري ولا نمط سواه ،
والنظر إلى "الغرب" على أنه "الفردوس الموعود" الذي بات يدغدغ
أحلام قطاع واسع من شبابنا اليائس والمتردد ، هذه الأحلام التي يمازجها الإحساس
بالغربة بصورة العودة إلى الوطن عودة الظفر والانتصار والولادة من جديد ، لكن
بمواصفات مادية مميزة ! ولا يفوت الباحث أن يشير إلى الجانب الآخر لظاهرة الهجرة تعرض
المهاجرين إلى اختلال أهم ركن من أركان هويتهم وهو اللسان ، مما يولد مع طول الزمن
نوعاً من الهزيمة الحضارية ، وقد يرتقي ليشكل ما يسمى بالتناشز المعرفي ، وهي حالة
من التناقض بين المعتقدات التي يحملها الفرد وبين السلوك الذي يصدر عنه .
في الفصل التالي تحدث
الباحث المغربي د.محماد بن محمد رفيع عن ( التأسيس الشرعي لعطاء الكفاءات
المهاجرة ) ناقش فيه بإسهاب وتفصيل ـ في إطار تأصيل شرعي عميق ـ الحاجات
الاجتماعية والدعوية والعلمية والعملية الماسة إلى بناء فقه الاندماج الاجتماعي
الإيجابي ، والتواصل الحضاري بين المسلمين وغيرهم ، وعرض فيه كذلك الضوابط الشرعية
لتوظيف مبدأ الاندامج الاجتماعي في بناء جسر التعارف والتعاون بين أطراف الخلاف
داخل المجتمعات ، وأشار إلى جملة من الوسائل العملية والمداخل الثقافية والتربوية
التي من خلالها يتم تجاوز حالة الاضطراب المعرفي والخلط العلمي والاهتراء التنظيمي
للمسلمين في المجتمعات الغربية .
أما الباحث المصري
د.خالد حربي فقد تحدث عن ( هجرة العقول والكفاءات : معادلة حضارية ) فذكر
أن في مقدمة الأسباب الداعية للهجرة في العصر الحديث تأتي الأسباب السياسية
والاقتصادية ، وبخاصة منها الهجرات من دول العالم الثالث المتجهة إلى الغرب ،
الأمر الذي أحدث أزمات ومشكلات في الدول المهجرة لرعاياها ، لاسيما الكفاءات أو
العقول المميزة ، وأشار الباحث إلى أن هجرات العقول العربية إلى الغرب بدأت بصورة
متواضعة في القرن 19 ، ثم أخذت تتزايد في القرن العشرين ، ومع نهاية الحرب
العالمية الثانية التي تزامنت مع بداية الثورة الصناعية في الغرب تفاقمت هجرات
العقول العربية إلى الغرب ، وتعاظمت الأزمة أكثر فأكثر مع هزيمة عام 1967 نتيجة
الصدمة النفسية الهائلة التي خلفتها تلك الأزمة ، ثم انتقل المباحث للحديث عن واقع
العقول والكفاءات في الحضارة الإسلامية ، مبيناً أن العلم على مدى ألف عام تقريباً
كان ينطق بالعربية في أنحاء العالم ، في ظل الحضارة الإسلامية ، ما جعل هذه
الحضارة مركز جذب للكفاءات من أقطار الدنيا قاطبة ، ثم ناقش الباحث حال العقول
والكفاءات الإسلامية بين عوامل الدفع المحلية وعوامل الجذب الغربية ، وذكر من أهم
عوامل الدفع العاملين السياسي والاقتصادي ، حيث يجبر الكبت السياسي والحاجة
الاقتصادية على الهجرة ، إلى جانب الفساد الإداري والمحسوبيات وما شاكل ذلك من
ظروف معاشية سيئة تدفع بالعقول العربية دفعاً إلى الهجرة بحثاً عن ملاذ آمن وفرصة
للحياة الكريمة . ثم عرض الباحث إحصائيات ووقائع خطيرة أظهر من خلالها حجم الأزمة
، منها أنه خلال النصف الثاني من القرن العشرين هاجر ما بين 25 ـ 50% من الكفاءات
العربية إلى أوروبا والولايات المتحدة ، ، منهم 750 ألف عالم عربي هاجروا ما بين
عام 1977 وعام 2006 ، وذكر كذلك أن حوالي مائة ألف من الأطباء والمهندسين العرب
يهاجرون سنوياً نحو الغرب ، إلى غير ذلك من الإحصائيات التي تبين حجم الكارثة التي
تنتج عن هجرة هذه العقول التي تنفق عليها بلداننا العربية مليارات الدولارات
سنوياً !
ثم تحدث الباحث
المغربي د.عبد الرحمن بودرع عن ( هجرة الكفاءات : رؤية حضارية ومقاربة اجتماعية
) رأى فيه أن الهجرة ظاهرة بشرية قديمة قدم التاريخ ، وهي تؤدي إلى تنوع
الأجناس والثقافات في المجتمعات التي يهاجر إليها المهاجرون ، وذكر أن دراسة هذه
الظاهرة تدخل في صميم الدراسات الاجتماعية ، وهي ترمي إلى أن يعي الفرد قيمته
ومكانته بين الآخرين ، وتحمل من جراء ذلك النتائج المترتبة على اختياره ، وقد قسم
الباحث الهجرة إلى أشكال ، منها الهجرات التجارية ، والهجرات السياسية ، والهجرات
العلمية ، ويرى أن معظم المهاجرين العرب هم لاجئون سياسيون دفعتهم الظروف السياسية
الظالمة في بلدانهم إلى الهجرة بحثاً عن بيئة أكثر امناً واستقراراً وتقديراً
لكفاءاتهم العلمية والفكرية ، واقترح الباحث في نهاية بحثة مجموعة من الحلول
للإفادة من الكفاءات ووقف هجرتها ونزيفها إلى الخارج ، وانتهى إلى ضرورة إخراج
التعليم في الوطن العربي من حالته التي هو عليها اليوم والتي تؤدي ـ بحسب الباحث ـ
إلى هجرة المتخرجين ذوي العقول المبدعة باحثين عن بيئة علمية توافق هواهم وتحقق
لهم الأرضية العلمية التي يحققون فيها إبداعاتهم .
ثم تحدث الباحث
البحريني د.عبد الستار الهيتي عن ( الأبعاد الاقتصادية في هجرة الكفاءات :
أسبابها وآثارها ) الذي رأى أن تزايد الحاجات البشرية وتنوعها عبر العصور ولدت
لدى الإنسان الرغبة بالهجرة من مكان إلى آخر ، ومن بيئة اجتماعية إلى آخرى ، طلباً
للرزق ، ورغبة في تطوير الذات ، وطموحاً للوصول إلى ما هو أفضل ، وبهذا كانت
الهجرة ظاهرة فردية أول الأمر ، ثم لم تلبث أن أصبحت ظاهرة جماعية ، علماً بأن
الهجرة قد لا تكون مجرد رغبة بل قد تكون نتيجة الاضطرار والفرار من الظروف القاسية
في كثير من الأحيان ، ويرى الباحث أن هجرة العقول العربية والكفاءات أصبحت من أبرز
الظواهر في مجتمعاتنا العربية في العقود الأخيرة ، وهي من أهم العوامل التي تؤثر
سلباً على الحالة الاقتصادية في الوطن العربي عامة ، ويعدد الباحث من الأسباب التي
تدعو الكفاءات العربية للهجرة : عدم توفر فرص العمل ، تباين مستوى الدخل بين الوطن
الأصلي ووطن المهجر ، والإحباط العلمي والمهني للباحثين في البلدان العربية ،
وانتشار الأمية العلمية ، وضعف الانتماء الوطني بسبب الظروف السياسية المجحفة ،
والفساد الإداري ، وقمع الحريات ، والمحسوبية في توزيع المناصب العلمية ،
والاستقطاب الطائفي والتوظيف السياسي ، وذلك كله مقابل الأوضاع المغرية في بلاد
المهجر !
وقد انتهى الباحثون إلى جملة من النتائج والتوصيات
التي نوجزها فيما يأتي :
1. أظهرت الدراسة أن 60% من العرب الذين درسوا
في الولايات المتحدة ، و 50% ممن درسوا في فرنسا ، خلال العقود الثلاثة الأخير ،
لم يعودوا إلى بلادهم ، وتوقعت الدراسة تزايد ظاهرة هجرة العقول إلى الدول
المتقدمة في المستقبل القريب ، نتيجة الظروف المعقدة التي يعيشها الوطن العربي
ولاسيما في ظل "الربيع العربي" وما رافقه من أزمات طاحنة .
2. انتهت الدراسة إلى أن من أبرز الدأسباب
الاقتصادية التي تقف وراء ظاهرة هجرة الكفاءات عدم توفر فرص العمل المناسبة لهم
ولمستوياتهم العلمية والمهنية ، وانخفاض مستوى الدخل ، وتدني مستوى المعيشة ، في
مقابل ارتفاع مستوى الدخل وتوفير الحياة الرغيدة في بلدان المهجر ، ناهيك عن
الإحباط العلمي والمهني للباحثين من أصحاب الكفاءات العلمية بسبب عدم توفر إمكانات
وأدوات البحث العلمي ، إلى جانب تدني نسبة الإنفاق على البحث العلمي والدراسات
الأكاديمية ، بالإضافة إلى تقديم من هم أقل كفاءة وعلماً إلى المناصب الإدارةي
والعلمية .
3. إن ارتباط دولنا بمنظومة النظام
الاقتصادي الرأسمالي أدى إلى خلق علاقة تخلف وتبعية ، بحيث أصبح الوصول إلى الدول
المتقدمة حلم أبنائنا الكبير ، لما تحمله من مزايا للمهاجر ، وهذا ما أسفر عن سرقة
خيرة الكفاءات العلمية العربية .
4. من أبرز الأسباب الاجتماعية لهجرة
الكفاءات العربية انتشار الأمية العلمية في مجتمعاتنا ، المتمثلة في عدم تقدير هذه
الكفاءات ، وعدم الاهتمام بأصحابها ، والتمييز الحزبي أو الطائفي أو العرقي في
كثير من الأحيان ، مما جعلهم يشعرون بالغربة وهم في أوطانهم ، وأضعف انتماءهم
للوطن العربي ، وزاد من رغبتهم في الهجرة .
5. أما الأسباب السياسية للهجرة فلام تعد
تخفي على أحد ، وهي تتمثل بالقمع والاضطهاد وعدم الاستقرار السياسي ، وكبت الحريات
الفكرية ، والاستقطاب الطائفي ، وسياسة الإقصاء والتهميش ، إلى جانب المحسوبية
التي تعد من أسوأ وأخطر أنواع الفساد الإداري والسياسي ، كل ذلك أدى إلى استبعاد
الكفاءات العلمية والمهنية من مركز القرار ، ودفعها للبحث عن محضن آخر في بلاد
المهجر .
6. أشارت الدراسة إلى بعض الجوانب
الإيجابية لهجرة الكفاءات على الرغم من خطورة هذه الظاهرة على احضر ومستقبل الأمة
، فهي لا تخلو بالرغم من ذلك من بعض الآثار الإيجابية ، منها تنمية الكفاءات
الوطنية علمياً ومهنياً ، والاستفادة من عوائد التحويلات المالية من بلاد المهجر
إلى الوطن الأصلي ، والحد من مشكلة البطالة ، والمساهمة في التقدم الصناعي
والتكنولوجي للبلد الأصلي ، وتحقيق التفاعل الحضاري بين الأمم والحضارات .
7. لكن يبقى من أبرز النتائج السلبية
لهجرة الكفاءات العلمية تستنزف العقول الوطنية المميزة ، وتشكل خسارة فادحة في
مجال التعليم ، إلى جانب الخسائر الاقتصادية ، وهي توسع الهوة بين الدول الغنية
والدول الفقيرة ، وتكرس تبعية الدول النامية للبلدان المتقدمة ، وتبدد الموارد
البشرية ، مما ينتهي بالوطن إلى التدهور الإنتاج العلمي والبحثي ، وضياع الجهود
والطاقات الإنتاجية والعلمية لهذه العقول التي أصبحت تصب في شرايين الدول المتقدمة
، مع أن دولها الأصلية في أمس الحاجة لها .
8. توصي الدراسة بمعالجة ظاهرة هجرة
الكفاءات من خلال برامج دقيقة تتعلق بسياسة التوظيف في مؤسسات الدولة ، من حيث
الأجور والمرتبات المجزية لتحقيق الكفاية الاقتصادية ، واختيار المكان المناسب
لتلك الكفاءات العلمية ، بما توافق مع مؤهلاتهم وإمكانياتهم ، وتوفير المناخ
السياسي الذي يوفر لهم المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار ، والعمل على نشر ثقافة
الولاء الوطني والابتعاد عن الولاءات الضيقة الحزبية والعرقية والمذهبية ، وإعداد
خطة علمية لتطوير مناهج التعليم بما يتناسب مع حاجة المجتمع ، وتفعيل دور الشباب
في حرية إبداء آرائهم وأفكارهم من خلال المنتديات والمراكز الثقافية والشبابية ،
وتشجيع الشركات والمؤسسات الخاصة للمشاركة في تمويل البحوث العلمية والإفادة منها
ن وتوفير أدوات وأجهزة البحث العلمي ، وعقد المؤتمرات والندوات وورش العمل العلمية
التي لها ارتباط بالوقاع الصناعي والاقتصادي والعلمي ، من أجل إحداث احتكاك علمي
بين الخبرات المحلية والعالمية ، وصولا إلى الإبداع والابتكار ، ووضع الرجل المناسب
في المكان المناسب .
9. ضرورة وضع استراتيجية عربية وإسلامية
تعمل على وضع ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية على جدول أعمال اجتماعات جامعة الدول
العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ، من خلال مؤسساتها ووحداتها المختلفة ، لرصد
إحصائياتها الدقيقة والتنبيه إلى خطورتها ، ووضع برامج عملية لمعالجتها .
10.
تبني
المواهب العلمية وعدم أهمال المخترعات التقنية التي يتقدم بها أعداد كبيرة من
الطلبة والباحثين العرب والمسلمين إلى الجامعات ومراز البحث العلمي دون أن تجد
طريقها للتنفيذ ، ويتحمل مسؤولية هذه المهمة كل من الدولة والقطاع الخاص .
11.
ضرورة
رعاية الجامعات العربية والإسلامية للعلماء والخبراء والمنتسبين إليها ، والحرص
عليهم ، وتوفير السبل التي تتيح لهم الابتكار والإبداع ، وتقديرهم مادياً وأدبياً
بدلاً من الوقوف في وجه طموحاتهم العلمية والمهنية ، والتوسع في إنشاء الأطاديميات
التقنية والبحثية لإتاحة الفرصة لهذه الكفاءات كي تمارس دورها العلمي والقيادي في
نهضة الأمة وتقدمها .
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن هجرة العقول سنة كونية من سنن الله في
خلقه ، فلا نتوقع وقفها بصورة تامة ، ولكن يمكننا استثمارها وتوظيفها بطرق علمية
مدروسة جيداً فتكون خيراً وبركة على الأمة ، وتكون كسباً حضارياً وعلمياً وتقنياً
يساهم في تقدم الأمة وازدهارها وإثراء تجاربها ، أما إذا لم نحسن استثمارها فإنها
سوف تظل عامل تقويض وضعف للأمة .
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق