المستقبل - الجمعة 30 آب 2013 - العدد 4790 - شؤون لبنانية - صفحة 3
يشكّل
لبنان نموذجاً فريداً لوجود السلاح غير الشرعي، إذ من بين حالات متعددة في العالم،
وحده لبنان يتبنى نظرية تجعل من الدولة غطاءً للسلاح غير الشرعي باسم
"المقاومة". مشكلة لبنان مع السلاح غير الشرعي ليست في كونه
"مقاومة"، وإنما في كونه غير شرعي، وليست في كونه موجوداً في مخازنه،
وإنما في كون إمرته ليست في عهدة الدولة، وليس في أنه واجه "إسرائيل"
وإنما في أنه بات لاعباً متحكماً بسياسة لبنان الداخلية والخارجية برمتها. ومن
يراقب مواقف جماعة السلاح من سلاحهم؛ يدرك يقيناً أن السلاح تحوّل غاية بحد ذاته
لاعتبارات سياسية أو عقدية أو كلاهما معاً، وأن فريق السلاح يطرح
"المقاومة" وكأنها هدف لا نهاية له، لا وسيلة لتحقيق عزة البلد وحمايته.
المشكلة
في السلاح غير الشرعي أن فئةً تتحكم به، وأنها تتحكم تالياً بالبلد وبمستقبله، بما
يعني غلبة فريق على بقية اللبنانيين داخلياً، وانتزاع تفويض منهم بالإكراه؛ إن هذه
الفئة أو الحزب هي من يقرر سياسة البلد الخارجية. هذا هو جوهر النقاش الجاري في
البلد منذ العام 2005 حول موضوع السلاح، ورغم وفرة الأدلة على حقيقة هذه المشكلة،
فإن فريق السلاح لا يزال يكابر متوسلاً تخوين معارضيه حيناً، وربط مواقفهم بصراعات
المنطقة حيناً آخر.
لقد
فرضت مشكلة السلاح غير الشرعي نفسها على البلد منذ ما بعد التحرير عام 2000، لكنها
اشتدت عام 2005، واستفحلت كلياً مع إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري بقرار من
السلاح في 12/1/2011 وتشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بقرار من السلاح نفسه في
13/5/2011.
يسلط
هذا الملف الضوء على نماذج من مساوئ السلاح غير الشرعي في فترة انفلاشه تحت كنف
حكومة ميقاتي، وهو يجمع بين الوقائع والمعلومات والتحليل والتوقع.
--------------------------------------------
بقي
السلاح غير الشرعي لاعباً سياسياً، ظاهراً وخفياً، منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق
الحريري، لكنه بعد السابع من أيار 2008 تحوّل لاعباً أولاً في الحياة السياسية
اللبنانية. في ذلك اليوم كشف السلاح عن وجهه الحقيقي كما لم يحصل من قبل؛ فرض على
حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التراجع عن القرارين المتعلقين بشبكة اتصالات
"حزب الله" وأمن المطار، وفرض على الطبقة السياسية اللبنانية كلها أن
تذهب إلى الدوحة لعقد الاتفاق الشهير الذي تشكلت بموجبه حكومة الرئيس السنيورة في
11/7/2008، ونال فيها جماعة السلاح ثلثاً معطلاً، ومن بعدها حكومة الرئيس سعد الحريري
في 9/2/2009 التي نال فيها جماعة السلاح الثلث نفسه أيضاً، ومكاسب إضافية في
اختيار الحقائب وتسمية الوزراء بمن فيهم الراسبون في الانتخابات النيابية، مع أن
حكومة الرئيس الحريري جاءت عقب انتخابات فازت فيها قوى 14 آذار.
الثلث
المفروض
لم
يمنع الرئيس الحريري من تشكيل حكومته وفق رغبته في 7/9/2009 ومن ثم اعتذاره وإعادة
تكليفه سوى السلاح، ولم يُطح حكومته عبر الثلث المستقيل+ وزير "الخديعة"
غير السلاح، والأهم أن أحداً غير السلاح لم يمنع سعد الحريري من ترؤس حكومة جديدة.
السلاح أخرج سعد الحريري في 12/1/2011 وأتى بنجيب ميقاتي في 13/5/2011.
في
18/1/2011 أراد "حزب الله" تذكير من يعنيه الأمر بالحقيقة التي سبق أن
أظهرها بفظاظة في اليوم الذي سماه أمينه العام "مجيداً". نفذ مقاتلو
الحزب مناورة غير مسلحة عند الفجر في بيروت لإيصال رسالة مفادها أن قرار استعمال
السلاح في وجه من لا يحترم رغبة السلاح قائم. أثمرت الرسالة بفعل تأثر النائب وليد
جنبلاط بها، وتحولت الغالبية النيابية من فريق إلى آخر، وجاء نجيب ميقاتي رئيساً
للحكومة وفق شروط فريق السلاح، ومن دون شراكة النصف الآخر من القوى السياسية.
الترهيب...
والإبعاد
ما
بين إسقاط حكومة الحريري وتشكيل حكومة ميقاتي قامت تظاهرات ضخمة، وتحركات مدنية
متعددة، لكن تحكم السلاح، وخوف اللاعبين السياسيين منه ظل مسيطراً. لا الفوز في
الانتخابات استطاع تغيير هذا الواقع، ولا التظاهرات الشعبية، بل على العكس من ذلك؛
فقد بلغ فجور السلاح في زمن النشوة بإسقاط الحريري أن سلّط عليه المهدّدين
والشتّامين والمهرّجين إلى أن أطلق النائب ميشال عون شعار One Way Ticket.
لم
يأت هذا الشعار من فراغ، فما هو معلوم اليوم أن الأسابيع التي سبقت مغادرة الحريري
لبنان كانت مزدهرة بتقارير محلية وخارجية حول احتمال اغتيال الحريري. أحد الأجهزة
الأمنية اللبنانية، "التي يثق فيها الحريري" نصحته فعلياً بالمغادرة،
بعدما لاحظت رصداً متتالياً لتحركاته في شهر أيار 2011، وحذرته تحديداً من التنقل
من مطار رفيق الحريري في بيروت وإليه (المكان الذي انطلقت منه عملية اغتيال اللواء
الشهيد وسام الحسن). صحيفة "Liberation" الفرنسية
كشفت المعلومات التي تلقاها الحريري في 17/6/2011 عندما أكدت أن الحريري كان
معرضاً جدياً للقتل على طريق المطار، وأن "واشنطن والرياض حذرتاه من عملية
اغتيال وشيك"... الحريري غادر لبنان. لم يعد إلى تاريخه، وثمة من لا يزال
ينصحه بعدم العودة.
تقديس
المتّهمين
وإذا
كان السابع من أيار 2008 كشف الوجه العسكري للسلاح، فإن المحكمة الدولية كشفت
الوجه الأمني له في تموز 2011 عندما أظهرت صور وأسماء أربعة متهمين باغتيال رفيق
الحريري (مصطفى بدر الدين وسليم عياش وحسين عنيسي وأسد صبرا). هؤلاء لم يرتق منسوب
التأكد من ضلوعهم في العملية سوى تبني "حزب الله" لهم، ومنع سلاحه غير
الشرعي لسلاح الدولة الشرعي من القبض عليهم، ومن ثم "تقديسهم" فوق مستوى
البشر.
وعليه
يكون السلاح غير الشرعي في نشاطه الأمني- هو الذي غيّر وجه لبنان باغتيال الحريري
الأب عام 2005، وهو الذي غيّب مبدئياً - ثلة من سياسييه البارزين في محاولات
الاغتيال المتلاحقة، باعتبار تلازم قضايا الاغتيال مع الاغتيال الأساس وفق المحكمة
الدولية، وهو الذي نفى الحريري الابن بعد إسقاط حكومته، وهو المسؤول مبدئياً - عن
جرائم الاغتيال ومحاولات الاغتيال الثلاث التي وقعت في زمن حكومة ميقاتي: محاولة
اغتيال الدكتور سمير جعجع، ومحاولة اغتيال النائب بطرس حرب المتهم فيها محمود
حايك، المسؤول في "حزب الله"، واغتيال اللواء الشهيد وسام الحسن التي
ربطها سياسيو لبنان وأمنيوه جميعهم بتوقيف ميشال سماحة، نجم جماعة السلاح وضيف
إعلامهم الدائم.
إلى
أين؟!
أما
النشاط العسكري للسلاح؛ فقد حضر في 7 أيار 2008، ثم ذكّر بنفسه في 18/1/2011، كما
حضر طيفه في الصواريخ - الرسائل على قصر بعبدا ومحيطه مرتين على التوالي في الشهر
الماضي، ونتيجة الخوف منه لا يزال الرئيس المكلف تمام سلام ينتظر الفرج لتشكيل
حكومة "المصلحة الوطنية"، ولا يزال النائب وليد جنبلاط يحك رأسه لتوقع
ما يمكن أن يحصل للبلد في حال تشكلت حكومة أمر واقع لا ترضى عنها جماعة السلاح،
ولا يزال الرئيس ميشال سليمان يتريث في استعمال قلمه للتوقيع على مراسيم تشكيل حكومة
لا تضم "حزب الله"، كما خصومه!
لا
يوجد متحكم بمصير البلاد والمواطنين اليوم يتقدّم على السلاح؛ له رجاله وإعلامه
وهيبته. الدولة وأجهزتها المختلفة وأكثر السياسيين خاضعون لسيطرته. لا انتخابات
تهزّه ولا دستور يعطّل أحكامه المبرمة؛ لا فرق في كونه يُستعمل لقتال العدو
الإسرائيلي، أو اللبنانيين المناهضين لحكمه، أو السوريين المنتفضين على ظلم رعاته،
أو أي جنسية أخرى تتعرض لإرهاب أدواته، فكله مقدس... وعبثاً يحاول اللبنانيون
إصلاح أي شيء في هذا البلد ما لم يثوروا على هذا السلاح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق