بسم الله الرحمن
الرحيم
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ
مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا الأحزاب (23)
قيل لنا ذات يوم كنا فيه لا نعرف الحقيقية، بان مصر قد نهضت من سباتها، كان
ذلك يوم سيطر العسكر على حكم مصر، يوم جاء اول طغاة العسكر، وأول قاتل، للمسلمين،
وأول من غدر بأصدقاء عمره ورفاق دربه، جاء القاتل ومصاص الدماء جمال عبد الناصر،
ليقف امام الحركة الإسلامية، امام الرسالة السماوية، فأنشأ محاكم التفتيش، وزج بالآلاف
في غياهب السجون، وأنتج مما انتجت عبقريته، حمزة البسيوني، الذي كان يقول للمسلمين
المستغيثين بالله جل في علاه: " لو نزل ربك من السماء لوضعته في الزنزانة
معك". جاء البطل ليقدم للشعب المصري هزيمة 67، وجاء ليقدم لمصر زوار الفجر،
والاختفاء خلف الشمس.
تبعه السادات، نتاج حكم العسكر، فكان منه ما كان، وما ذلك على الامة ببعيد
او مجهول.
وجاء الأمي، سيد الجهل، واستاذ الغباء، وهو أيضا من نتاج العسكر، فكان منه
ما كان، وما آل اليه على يد الشعب المصري، يبرز قيمة الأسى والذل والهوان والطغيان
الذي عانى منه الشعب، مذ عهد ناصر الى عهد مبارك.
جاءت الثورة، لتطرح وبصوت واضح جلي، لا لبس فيه ولا غموض، نهاية حكم
العسكر، والانتقال كما الشعوب، الى حكم مدني يؤسس لدولة الحرية والعدالة، فكانت
النتائج، بان وقفت على اختيار موفق، اختيار عالم متمكن من المعرفة والثقافة
والخبرة، عالم يحفظ القرآن الكريم ويبني أفكاره كلها على ضرورة نهضة مصر كمارد
يستطيع المواجهة والتعامل بندية، ندية كرامة التاريخ المصري منذ وجدت الى مصر
يومنا هذا.
لكن العسكر، الذين طبعت طبائعهم بالغدر والخيانة، وجبلت جبلتهم بالخضوع
والعبودية، وأصبح شرفهم العسكري كله يقف على قيمة المدفوع من هنا وهناك، هؤلاء،
عبيد العبيد، رفضوا، ان يكون لمصر شأن وقيمة، رفضوا ان يكون لمصر كرامة او عزة او
انفة، فانقلبوا، كعادتهم على الرئيس العالم، واختطفوه، بمساعدة حركة دفع ثمن شرفها
من قبل حفاة عراة رعاء، ومن قبل اخرين، فضاعت الثورة، وضاع الجهد والإرادة
المصرية.
تحرك الشرفاء، ممن ورثوا النخوة والعزة والاباء والتضحية، فأنشأوا ميدانا
للنهضة والعزة والكرامة، وميدانا لرابعة التي فاق طهرها وعفافها النهضة ذاتها،
فالتحمت نهضة رابعة، مع رابعة النهضة.
اليوم خرج عبد الناصر والسادات من قبريهما، والتقى بهما مبارك على أبواب
الخيانة، ودفع هؤلاء جميعهم بكل حقدهم وطغيانهم وعنتهم وصلفهم وقهرهم واستبدادهم،
وعبوديتهم في قلب ابنهم المعجون بالذل والعار، فكانت المجازر، ذات المجازر التي
دشنها عبد الناصر والسادات ومبارك، لكن بدفعات من حرارة الوراثة التي جعلت منه سيد
الكفر والطغيان والجريمة والبشاعة.
اليوم لم يقل لنا،
ولن نسمح ان يقال لنا، اليوم نحن من يقول، وعلى التاريخ ان يسمع، سماع انصات لا
يستطيع ان يفقد حرفا او كلمة او جملة، اليوم جاءت رابعة النهضة ونهضة رابعة وكل
ميادين وشوارع الحرية، لتقول القول الفصل، والكلام الذي لا يعقبه كلام، والدم الذي
لا يشبه الدماء، دماء العلماء والائمة والصالحين والعابدين السجد الركوع، كلمات
الأرواح التي رصفت منابر الحرية المتصلة بحرية السماء، والعدالة المستمدة من عدالة
السماء.
عزاء، لا، لن نقدم
عزاء، تماما كما الدكتور البلتاجي قال، وكما قال كل العلماء والائمة من فوق
المنصات. لكن هناك فعلا عزاء، سنرجئه الى حينه، وهناك هزيمة، سنتحدث عنها حين
نتحدث عن العزاء.
ليلة الثلاثاء،
جافاني النوم، جفاء كاره بلغ الكره فيه حد الحقد والضغينة، تقلبت على جنب وجنب،
فلما ايقنت بقدرة القلق والارق التمكن مني، ثبت الرائي على محطة الحوار، لأتنسم
نسائم الإيمان والصبر والثبات من ميادين مصر النصر، غشاني طائف النوم من حيث لا
أدرى، وما هي الا ساعة او يزيد قليلا، حتى نهضت لأتوضأ طلبا للمثول بين يدي
الخالق، عدت بعدها للنوم، فوجدته يقرع باب الصحو بقوة، نظرت للرائي، كنت اذ ذاك
اغالب الصحو، لكن الفشل كان السيد.
بدأت المجزرة،
بقوة وعنف، كانت القوات تتحرك وكأنها تخوض معارك تحرير ارض ووطن من عدو استباح
الأرض والعرض، وكانت رابعة النهضة، ونهضة رابعة، ترسل الأرواح، وتفتح الجروح،
وتتنشق السموم والغازات، ولم يثنها ذلك عن التمسك بالتكبير والتهليل والتسبيح،
صمدوا، صمود الجبال والرواسي، فتحوا صدورهم وقلوبهم لتضميد الافئدة المفجوعة من
هول الصدمة، لكنهم ظلوا يصلون الحبل بالله، بالسماء، بالقوة والجبروت والقدرة
والاقتدار، وكانوا أيضا، يفتحون انفسهم وقلوبهم وعقولهم ودعواتهم الى الرحمن
الرحيم، فملكوا زاد الصمود وزاد الرحمة، فانفتحت لهم أبواب الشهادة.
شاهدتهم، كانوا
يمسكون بالثبات من غرته، وبالعزة من غرتها، وبالفخار من ناصيته، وكانت انوار
الشموس والنجوم تجتمع متجدلة على محياهم، لو سألت الزلازل عنهم لقالت: بانها تذهل
مما يملكون من قدرات. ولو سألت البراكين عن الفاظهم واصواتهم ونبرات حروفهم، لاحنت
هاماتها خجلا امام اصرارهم وعزيمتهم، ولو توسلت الزوابع والعواصف لتصف ما فيهم من
حمية، لسالت جباهها خجلا من عجزها عن وصف حميتهم.
رن هاتفي، كان
صديق، أراد ان يطمأن على حالي، لما له من علم بهشاشة احاسيسي ورهافة عواطفي وسخاء
دمعي، قال: يا صديقي، هي الاقدار، احسست بصوته تصدعا، وفي نبرته ٍأسى ولوعة، قلت:
اوتشعر بالاسى واللوعة، بالحزن والكمد والقهر؟ قال: نعم.
اشفقت عليه الى حد
الرثاء، لكنه صدم صدمة لم اعهدها فيه حين سمع رنين صوتي، وصفاء قولي، ونقاء الحروف
وهي تتشقق من أوتار لتحلق في فضاء لم اعهده بذاتي من قبل. كنت اغرف من ينابيع
الفرح والحبور والسعادة والغبطة، وانهل من معين العزة والشموخ والفخار، حتى ان
الأسى واللوعة لم تجدا مكانا في عمقي واعماقي، كيف لا وانا امام علماء وائمة
وخطباء وسجد ركع، وانا امام أناس اصطفاهم الله وانتقاهم ليكونوا هناك تحت العرش في
عليين.
قال لي: هزمنا يا
صديقي؟!
قلت: اوتظن حقا
ذلك؟ ان كنت كذلك، فعليك ان تعيد حساباتك. نحن نتحدث عن نصر، أولئك العلماء
والائمة، السجد الركع، لا يعرفون الهزيمة مطلقا، الم يقل عمر المختار رضي الله عنه
وارضاه: " نحن لا نستسلم، ننتصر او نموت" هما خياران يا صديقي، نصر او
شهادة، الأول، خيار دنيوي محض، هو بيد الله جل في علاه، الم تسمعهم قبل أيام في
الميادين يقولون: " عليكم بالثبات، بالعمل، بالأخذ في الأسباب، اما النتائج فإنها
متروكة لله جل شأنه"، الم تقرأ الكلمات في خطاب رئيس جمهورية مصر حين قال:
" اعلموا ان الأمور تجري بمقادير، وان الله غالب على امره"، الم تدرس
معركة احد، الم يهزم المسلمون وبينهم سيد الخلق واشرف البشر صلى الله عليه وسلم؟
الم تقرأ سيرة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام حين حوصر مع المسلمين؟ الم يلفتك
قول الرسول عليه الصلاة والسلام: " اصبروا آل ياسر، ان موعدكم الجنة".
فصبروا حتى لفظوا انفاسهم الأخيرة بعد رحلة عذاب مضنية؟ وكأني بك لم تسمع ابن
تيمية رضي الله عنه حين قال: " ان سجنتموني فهي خلوة في سبيل الله، وان
نفيتموني فهي سياحة في سبيل الله، وان قتلتموني فهي شهادة في سبيل الله"
هؤلاء استقوا هامات العزة والرفعة والشرف، من قولة جل في علاه" إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ
الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة (111)، هنا يجب ان تقرأ جيدا، المعنى
الرابض بين الكلمات، الله جل في علاه، القادر، الجبار، العزيز، المتكبر، صاحب
الإرادة المطلقة النافذة الواقعة بيم حرفين، " كن" فيكون ما شاء، مما
يتصور العقل ولا يتصور، الخالق اشترى من المؤمنين " انفسهم" و
"واموالهم"، شراء يقود الى جنة، فهل مثل هذا الشراء يمكن ان يكون
هزيمة؟! أمثل هذا الشراء يمكن ان يكون خسارة؟! نحن نتحدث عن علاقة بين الملك الذي
لا ملك قبله او بعده، عن الله الذي يعطي ويأخذ، عن مانح الحياة وموقفها وقت شاء
وانى شاء.
مثل من كانوا في رابعة، هم من كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، يوم
حوصر في الشعب، وهم من كانوا معه يوم كانت قريش تضهده وتدعي عليه وتناوئه، كنا
نقول منذ زمن: بان الابطال قد توقف وجودهم، وان الصحابة او من يشبههم عاشوا ولن
يتكرروا، لكننا اليوم ندرك، بان الرئيس محمد مرسي رضي الله عنه وارضاه، وصفوت
حجازي والبلتاجي والشاطر وحازم أبو إسماعيل، ومحمد عبد المقصود رضي الله عنهم
وارضاهم، وغيرهم، وكل من كان في رابعة، من نساء ورجال، هم مثل حي على عهد الصحابة
والتابعين، هم نور متألق يرسم ملامح الوطن الإسلامي بنور الله الذي لو اجتمع الكون
كله من اجل ليس اطفائه، بل محاولة ستر قوته وسطوعه، فانهم سيفشلون.
في رابعة، والنهضة، وكل ميادين مصر التي خصها الله والرسول بالكثير من
الذكر، تنتصب الهامات، وترتفع النواصي، لتتواصل مع الله جل شأنه سجودا وركوعا
ودعاء، لتعلم التاريخ والتراث والأيام والعقود والدهور، بان المسلم، المصري، هو
ذات المسلم الذي تعهدته مصر يوم القاه اخوته في البئر، وانه المسلم الذي شق الله
البحر لنصرته، وانه المسلم الذي جاء من بيت الله الحرام ليتزوج من مصرية، وانه
المسلم الذي مد العالم بالعلم والنور، هذا المصري والمصرية، هم من أوقفوا التاريخ
الان على حافة الفصل بين الحق والباطل، تماما كعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي
فرق بين الحق والباطل، كان يومها رضي الله شخصا واحدا سمي بالفاروق، اليوم كل مصري
ومصرية وقف امام الخيانة والعهر والانبطاح والذل والمهانة هو الفاروق.
لهذا سنقدم التهنئة، والتبجيل، والزغاريد، والاهازيج، والافراح، من اجل من
ارتفعوا بأقدامهم ودمائهم فوق هامات الخونة من الوطن الإسلامي كله، وفوق هامات
العالم بأسرة، سنغني لهم غناء البلابل ونصدح من اجلهم صداح العنادل، لهم سننشد
الأناشيد، ونعزف معزوفات زفافهم الى البيع الذي انتموا اليه ليكونوا أصحاب الجنة.
قيل انهم ماتوا، ومن قال ذلك، ربما لا يعرف معنى الموت الحياة، الحياة التي
وصفت بالقرآن بوصف الحيوان، أي اللانهاية، الخلود، البقاء، السرمدية، الم يقل الله
جل شأنه بوضح لا يعلوه وضوح: " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ آل عمران (169).
عزاء، نعم سنقدم العزاء، للقاتل ومن دار في دائرته، للموالين للعبيد،
للجهلاء، لمن طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم، لمن وعدهم الله جل في علاه
بالخزي والعار، لمن قبلوا ان يضعوا جباههم وخدودهم ورؤوسهم تحت احذية عبيد العبيد،
لمن ظنوا انهم يملكون قيمة في الحياة بعد ان تمرغوا بالعهر والرذيلة الى قمة
الرأس، نعم سنقدم العزاء للجبناء الرعاديد، جبناء القلوب والعقول والنفوس، ورعاديد
الرأي والاستقلال والكرامة.
لمثل هؤلاء المنزوعين من كل قيمة وكرامة وعزة وإباء وشموخ، لمثل هؤلاء
المنحلين أخلاقيا، وانسانيا، وادميا، نقدم العزاء، بأنفسهم، بوجودهم، بكينونتهم
المنحطة الى درجة تشعر الخنازير معها بالرفعة والعزة والاباء والنقاء والطهارة،
الى مثل هؤلاء الساقطين من قاموس الإنسانية، وحتى قواميس الانعام، والجماد، وحتى
من قاموس ابليس واتباعه، الى مثل هؤلاء نقدم العزاء، وان كانوا لا يستحقون العزاء.
يا نهضة رابعة، انت وقفت الوقفة التي أرادها الخالق منك، وتركت النتائج
لله، كما قال العلماء الاطهار من على المنصات، فلا تقلقي، بنصر قد يأتي الان، او
يؤجل الى وقت آخر، فقد حققت نصر الشهادة، ونصر الثبات، ونصر المقاومة، ونصر
الطهارة، ونصر المواصلة، ونصر المثل الذي سيكتبه التاريخ بأحرف من دماء الشهداء
التي تحولت الى مداد يملكه الشرفاء.
واتركي الشامتين، المسكونيين بالذل والمهانة والخضوع، وكوني كما قطرات
الندى التي تترك الافاق من اجل احياء زهرة تنتظر نحلة لتمنحها الرحيق ليتحول الى
عسل فيه شفاء.
قامات الرجال لا تقاس بطول او عرض، وانما بقدر واقتدار على امتلاك ناصية
المبادرة والتضحية، والقدرة على الرفض علم لا يفلح فيه الا اشد الرجال بأسا
واوسعهم عقلا. ولأنكم أدركتم ذلك، فأنتم تتركون وصية واضحة: القوة درع الحق وسلاح
الباطل.
فكان ايمانكم هو درع الحق، وكانت المجازر المتتالية هي سلاح الباطل الذي
استخدمه القتلة والسفاحين.
هنيئا لكم الحياة، اما نحن، فإننا اموات في اهاب احياء.
فاعذرونا وسامحونا، ان كنا نستحق العذر او المسامحة.
مأمون احمد مصطفى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق